في زحمة الاغتراب وأوجاعه وهمومه، تكتسي النفس البشريّة حلّة عتيقة، تتبدّل معالم الفرح بأغوار الذات، يبدأ جبل المُعاناة يتطاوَس مرّة، يتسارع مرّات، تاركاً سفينة عمرنا تتلاعب بها الأمواج العاتية، فتغور بها إلى الأعماق، أو تقذف بها على أيّما صخرة، أو أيّما هضبة! هي ذي حال الغريب أينما كان، وحيثما حلّ… فالرّسالة تفعل في نفسه الأفاعيل، وصوت أحد أفراد الأسرة عبر الأثير «الهاتف، أو الموبايل»، يذيب منه الرّوح اشتياقاً ولهفة ولوعة، تتسارع دقّات القلب، لكأنّها تريد معانقة أجواز الفضاء، فَرَحَاً وانتشاءً، وإذا حمل إليه أحد القادمين منْ هناك، «من بلد الوالدين، أو الزوجة والأبناء»، شيئاً من أشيائهم، من طعامهم، من حلوياتهم، فإنّه يستقبله بحبٍّ وفير، وشوقٍ متفجّر، طابعاً على وَجْنتَيْه الاثنتين عشرات القُبَل، حتى ولو لم يكن بينهما من قبلُ أدنى تعارف، أو أيّ لقاء! فماذا يقول المراقبون في واحدٍ من المغتربين، وهو يرى لساعتين اثنتين، «بِمطار غير مطار بلده»، طائرةً قد وصلت منْ هناك، منْ وطن الأحبّة، وبلد الأعزّاء؟ ها هي ذي تنزل الهُوينّى على المدرج، منْ طيّار متمرّس، أتقن فنّ القيادة بتؤدة أيّما إتقان، فنال بذلك إعجاب المنتظرين المتفرّجين، وتقديرهم! قلوبٌ تنخلع من المقاعد قبل وصول الطائرة إلى المدرج، قلوبٌ تنطلق من منصّة الانتظار إلى بطن الطائرة، لتعانقَ الأعِزَّة القادمين، بينما العواطف الملتهبة، تجعل كلّ شيء بعيون القادمين والمستقبِلين أخضرَ نَضِراً. وحالما تهبط الطائرة على مدرج السلامة، يتنفّس الجميع الصُّعداء، الذين على المنصّة، والرّكاب الواصلون، يطفئ الطيّار المُتمكّن المحرّكَ أو المحرّكات، لتستقرّ أرضاً عجلاتُ الطائرة تماماً! هل بين شرائح القرّاء مَنْ يصدّق، أنّ معدن الطائرات هو الآخر، يضجُّ فَرَحاً وحُبُوراً، حال ملامسة العجلات إسفلت مدرَج الهبوط، لأنّه يشعر، كما البشر، بالطمأنينة والأمان، وسلامة الوصول؟ بعد الانتهاء منْ إجراءات الجوازات الرّسميّة، واستلام الأمتعة والحقائب، يبدأ العناق الحارّ، ثمّ تقذف «صالة القادمين»، بآلاف آلاف العواطف والمشاعر والأنباض، خارج بلاطها! القُبَل تتوارد، الذّكريات تنثال، الكلام المكتوم والمُعلن، ينداحُ كصنبور ماء.. السيّارة التي تقلُّ العائلة دافئة دفئاً غريباً.. خارج زجاج السيّارة، أزهار رائعة التلوين والتكوين، ودنيا من الفرح والجَمَال، لكن ماذا عنْ حال واحد من المغتربين، وهو يشهد بأمّ عينيه طائرة تابعة لشركة طيران بلده، وهي تحطّ على أرض المطار هنا، وتقلع كذلك من هنا، وخلال ساعتين اثنتين ليس إلّا؟ ها هي ذي تحمل مجدّداً ركّاباً مسافرين، وتدرج للتّو على سجّادة المطار، لتصعد بالفضاء أمام عينيه، متحدّية كلّ مشاعره الرّهيفة، على حين أنّ الغربة اللزجة تضغط طبقات رأسه، والحنينُ الجارفُ يلفحُه، كما تلفح الشّمس ورقة خضراء مقطوعة، فكيف يلجم عواطفه عنِ الوثوب والتفجّر، وكلّ الوطن أمامه الآن، في صورة الطائرة هذه، والمنطلقة من «مطار أبوظبي»، إلى «مطار دمشق الدوليّ»؟ حتماً لا يمكن لقلم من الأقلام، أنْ يصف تعلّق الغريب بوطنه، مهما أوتِي هذا القلم من فصاحة وبيان وجودة أحْبَار.. الغريب ممثل فاشل، لأنه لا يجيد فنّ التمثيل بحالٍ من الأحوال.. وعندما يغادر المطار، عائداً إلى بيته، يجد على ضِفّتي الطريق آلاف العناكب، وقد نصبت فخاخها، لاصطياد بقايا الفرح بقلبه، يشعر بأنّ شوك الصبّار، يملأ حلقه وكيانه، بل ويتعزّى بينه وبين نفسه بالصّبر والسّلوان والأمل! لكن أنّى له ذلك، ومنذ دقائق ودّع أصحابه المسافرين، إلى مطار الوطن، وجسم الطائرة لا يزال يتراءَى أمام عينيه مَجْلوّاً زاهياً، ووجوه الأطفال هناك، أصواتهم العذبة، صور ألعابهم، روعة ابتساماتهم، كلّ هذا وذاك يرتسم اللحظة، يتراقص أمام عينيه رغماً عن قسوة الغربة وحنظلها وكُرْبتها. ويضغط على مشاعره، ويروحُ صبره مجدّدا يتعالى كشجرة سَرو، ويتطاول كعنق زرافة، ثم يبدأ السّباحة على أجنحة الخواطر الطيّبة، يشقّ الموج، حالماً بركوب الطائرة، وبسلامة العودة إلى أرض الوطن، ألم نتعلم في مدارسنا بأنّ «حبّ الوطن من الإيمان»؟! إنّ الغائبين والمهاجرين والمهجرين بفعل الإرهاب ، من أبناء الوطن، مثل «طيور الكراكي»، مهما طالت غربتهم، لا بدّ عائدون، إلى الأرض الطيّبة التي رَعَتْهُم، إلى صدر الوطن، الذي احتضنَهم يوم كانوا صغاراً وشباباً، في أيام الصّقيع والغياب، بكلّ الأيام الصعبة، والظروف القاسية!
وجيه حسن