في التنظير النقدي
في التعريف الأكاديمي للفنون الأدبية قاطبة»شعر ، قصة ، رواية ، مسرحية ، مقالة» أنها تجربة إنسانية ، يمر بها الأديب فينفعل بها ويعبر عن انفعاله بالكلمة الجميلة « وهنا أضع عشرين خطاً تحت عبارة (الكلمة الجميلة) .. هذا من حيث المضمون ، أما من حيث الشكل:» الفنون الأدبية محاكاة للواقع « أي أنها تطل على الواقع المعيشي من علّ محلقة فوقه بأجنحة الخيال المجنح والمجاز المبتكر ، والصورة البارعة ، والاسلوب الفني الأخاذ ، وقديماً قال أمراء النقد العربي الكلاسيكي أمثال (الجاحظ، الجرجاني ، ابن رشيق ): « المعاني مطروحة على قارعة الطريق ، يعرفها الجميع المتعلم والأمي ، ولكن العبرة في صياغتها بأسلوب فني راق ، يبتعد عن الكلام العادي فيستحق بذلك ولوج أبواب الخلود «.
ويتجلى ذلك في الأمثلة التالية :
1-السرد المباشر
مات صديقي ( مراد) البارحة
كنت مشتاقاً لرؤيتك
شاب شعر رأسي
عيناك زرقاوان
شعرك أسود ووجهك جميل
2-السرد الفني
غربت شمس صديقي ( مراد)
خلف ربا السنين
طرت إليك على جناح الشوق والحنين
اشتعل الرأس شيباً (عيناك بحر أزرق)
شعرك شلال اختبأ فيه قمر
في الجدول الأول كلام عادي ، لا يحرك ساكناً في ذهن قارئه بينما في الجدول الثاني كلام جميل ، يحرك المشاعر ، ويهدهد الأحاسيس ، ويمتع الفؤاد ، ويشرح الصدر ويسمو بالذوق.
2- في المجموعة القصصية ( غفران):
تضمنت هذه المجموعة مواقف إنسانية نبيلة ، وأهدافاً مشروعة ، وعاطفة صادقة ، وأفكاراً ناضجة ، ورؤية اجتماعية ثاقبة ، فاستحقت بهذه المؤهلات أن تنتمي الى المدرسة الواقعية في الأدب ، وهذه المدرسة تصور الواقع الاجتماعي بجوانبه السلبية من أجل المطالبة الجريئة بتغييره بالجوانب الإيجابية |، ومن قصة ( المبرد) ص7 نقرأ:(المسلحون في كل مكان ، يسرقون الأمن والأمان ، ويقتلون الإنسانية بلا رحمة ) كما نقرأ من نفس القصة ( نظر إلى عينيها اللتين ماتزالان تشبهان حدائق الزيزفون وهما تمطران شوقاً وحنيناً).
ومن قصة ( غفران ) ص31 نقرأ:( كيف لنا أن نعاتب أفكارنا ؟ والقدر مكتوب علينا ، حياة سنعيشها بحلوها ومرها ، نهايتها ليست بأيدينا فما الذي يخبئه القدر؟)وفي قصة (مازال في الذاكرة) ص 67 نقرأ :(جلس أبو محمود في الممر العريض بثيابه البسيطة على مقعد الانتظار ، ويده اليمنى كانت تستند على عكاز خشبي ، واليد اليسرى تحمل سيجارة ، وعيناه الصغيرتان ينسدل عليهما حاجبان كثيفان)ومن قصة (ماوراء السحب ص107نقرأ(أنا أيضاً بحاجة إليك (فغيث)و(نسرين) يحبانك ، وأنا بحاجة الى إمرأة حنونة وذكية تساعدهما ، فهناك أمور كثيرة أجهلها ، وأنا سأساعدك ما استطعت و (ماهر) سأعرضه على أفضل الأطباء).
لدى مقارنة المقبوسات الأربعة السابقة من الناحية الفنية ، نجد في المقبوس الأول صوراً جميلة ( يقتلون الإنسانية بلا رحمة ) (يسرقون الأمن والأمان)(نظر إلى عينيها وهما تمطران شوقاً وحنيناً)بينما خلت المقبوسات الثلاثة الأخرى من أية صورة واكتفت بالسرد التقريري المباشر ، والصورة الفنية هي ( استحضار الشيء الغائب المحسّ بلفظ ، يدل عليه في حين غياب الشيء ذاته ) فالصورة عند ما تستخدم في الحقائق الجافة ، تجعلها تورق بالإبداع والابتكار ، أما الشخصيات في هذه المجموعة ، فهي مطمورة في حالاتها النفسية ، وغائصة في وحل الواقع ، ومغلولة الارادة تشف عن مقطع اجتماعي منتقى بعناية ، يستثير التعجل بتغييره لأنه بناء كرتوني هزيل آيل للسقوط مداميكه ( الإرهاب ، إنعدام الوفاء، الخيانة ، الفساد) والأسلوب الذي صيغت به هذه المجموعة اعتمد على السبك الجملي المتين المعبر بسهولة عن الفكرة ضمن ألفاظ جزلة فصيحة ، ترف برشاقة واضحة ، وتكسو الأفكار ثوباً من السلامة الممتعة ، ينتهي عندها تطور روحي دافئ، تنحو لتحليل مليء، ومناقشة مثمرة ، وتفكير واقعي ، إنها بروق لامعة خلال السحب السوداء المنجمة على عقولنا ، وإلهامات وعواطف تبشيرية ، تمد حبلاً مشدوداً فوق الهاوية من أجل السير في الرواق المؤدي الى الحقيقة وهذه المجموعة هلال جميل ، يحاول أن يتكامل فيصير بدراً.
نزيه شاهين ضاحي
المزيد...