كانت حياتنا ، في البيت، تسير بشكل عادي قبل أن تصلنا تلك الرسالة في ذلك الصيف قبل عدة سنوات فقد حصل ما يشبه ” الانقلاب” في حياتنا المنزلية ، فصارت قلوبنا تنبض بفرح خفي وصارت أحاديثنا كلها أو أكثرها عن الحدث الجميل المنتظر.
وعلى الرغم من أن الرجل كان يرسل لنا رسالة أو رسالتين كل سنة غير أن الرسالة الأخيرة ، وتداعياتها لن تنسى فهو يقول إنه سوف يزور البلدة ليستعيد ذكريات طفولته وفتوته وبعض سني شبابه المبكر ويحدد موعد الزيارة .
“جودت ” ابن عم أبي هاجر إلى “سان باولو” التي يلفظها أبي ” صنبول” قبل خمسين سنة كانا يدرسان معاً في صف واحد وقد حاول إقناع أبي بالهجرة معه غير أن أبي كما يقول لا اعتقد أن بلداً في الدنيا أجمل من بلدنا ..!!.
تزوج ” جودت ” من امرأة من أصل عربي في المهجر وأنجب أولاداَ وبناتا و بدأ عمله بائعاً متجولاً ثم اشترى دكاناً صغيراً ثم صار عنده ” مولا ” كبيرا جداً يتألف من عدة محلات وهذا معناه أنه أضحى ثرياً جداً.
وراحت أمي تردد :” إذا كان جارك بخير فأنت بخير وتقصد أن ابن عم أبي سيأتي محملاً بالهدايا ولا بد أن يدس لأبي رزمة من الأوراق النقدية لا تقل عن المليون ؟ والمليون وقتها تشتري سيارة فاخرة وهذا ما كانت أمي ذات الستين سنة تحلم به وعلى الرغم من موافقتنا جميعاً على أن السيارة ستبدل حياتنا وأن أمي مصيبة فيما تقول غير أن أبي وحده كان ضد شراء سيارة أنا وأشقائي كنا فرحين لأننا سنمتلك سيارة بعد انتظار طويل غير أن خلافاً حاداً نشب بيننا فكل منا يرى نفسه المؤهل أكثر من غيره بقيادة السيارة والاحتفاظ بمفتاحها..
يردد شقيقي الأكبر بأنه الأحق بقيادة السيارة لأنه جامعي ومدرس في مدرسة القرية وكان اعتراضنا عليه أنه لا حاجة للسيارة والمدرسة لا تبعد عن المنزل سوى مئات الأمتار ؟ أما شقيقي الأوسط فيرى أنه الأحق بقيادة السيارة لأنه يحمل الثانوية المهنية باختصاص محرك سيارات ولكننا دحضنا هذه الفكرة لأنه لا يعرف شيئاً عن اختصاصه المزعوم وهو يعمل في دائرة النظافة في المدينة, أما أنا راوي هذه القصة فقلت لهم : إنني الأحق لأنني أصغركم وأنا أعمل في الأرض ولا أبرح القرية وأعيش مع أبي وأمي في منزل الأسرة بينما شقيقاي يعيش كل منهما في بيته الخاص وفي سياق دفاعي عن فكرتي : إن المبلغ المرتقب سيكون هدية لأبي وأنا أحتاج السيارة لأخذه بين حين وآخر لمراجعة الطبيب وكذلك أمي فهي أيضاً تحتاج إلى مراجعة المشفى كان الجدال يحتدم بيننا وتعلو أصواتنا ويدعي كل واحد منا أنه هو الأحق بقيادة السيارة والمشرف عليها, والحق يقال إن أمي / أطال الله عمرها / كانت إلى جانبي وكانت تقول لي: ( إن كل فتاة في البلدة سوف تتمنى أن تطلب يدها بعدما يرونك تقود سيارة فاخرة …)
وكنت أسر كثيراً بهذا الكلام ، وأحلق مع أحلامي في فضاءات بعيدة .
الغرفة التي على سطح المنزل والتي ندعوها ” العلية ” ستكون مقر إقامة ” الضيف الكبير ” كما ندعوه وقد قمنا بغسيل جدرانها وسقفها ، وفرشناها بسجادة كبيرة ، وجهزنا فراشاً من الصوف للعم ” جودت ” ..!!.
بعد أيام تقف سيارة أجرة أمام بيتنا ينزل منها رجل سبعيني يضع قبعة من القش على رأسه ويرتدي بزة أنيقة وربطة عنق فاخرة ويحمل بيده حقيبة سوداء أما السائق فقد أسرع وفتح صندوق السيارة وأخرج منه حقيبة كبيرة ووضعها بجانب باب دارنا في هذه الأثناء كنا نهرع إلى السلام على الضيف ونقبّل يده ، ونعانقه بينما كان أبي ينحر الخروف الأكبر في قطيعنا تكريماً لابن عمه ” الضيف الكبير ” .
بلهجة عربية مكسرة يرد تحياتنا وتتناثر دموعنا ودموعه تأثراً بالموقف .
يخاطب أبي: (خمسون سنة يا ابن عمي .. والله لولاك لما جئت إلى هنا ..!!)
( الحمدالله أنني أراك قبل أن أموت ..!!) يجيب أبي .
ثلاثة أيام أمضاها العم جودت الذي عرفنا أنه يدعى في المغترب ” جود ” وكانت زيارته مناسبة لنا لنتذوق أطيب الأطعمة .
غير أن أعيننا كانت معلقة بالحقيبة الكبيرة التي اكتشفنا أنها تحوي ملابس الضيف ، لا أكثر !!.وهذه خيبتنا الأولى .
وعندما كنا نودع الضيف أمام البيت عند السيارة التي جاءت لتأخذه ،و هي ذاتها التي جاءت به كنا نعانقه بفتور ، ويعانقنا بحرارة ، ويلهج بعبارات الشكر لهذه الاستضافة الكريمة .
عاد لنا الأمل بقوة ، عندما شاهدنا العم ” جود ” يدسّ مظروفاً في جيب أبي فيه رزمة كبيرة من الأوراق النقدية .
سارعنا إلى فتح المظروف معتقدين بأنه يحوي ” عملة صعبة ” سنحولها إلى الليرة ونشتري السيارة المنتظرة كانت أعيننا جاحظة تكاد تخرج من محاجرها ، وقلوبنا تسقط بين أقدامنا عندما عرفنا أن تلك الرزمة من عملة تلك البلاد ، لا تساوي أكثر من بضعة آلاف من الليرات السورية !!.
عيسى إسماعيل