تحية الصباح .. شعر أم استجداء ؟!!

كثيراً ماتوقّفت عند مسألة المديح في شعرنا العربي، وأعني ذلك المديح الذي كيل للخلفاء، أو الأمراء، أو أصحاب المواقع السلطويّة، فوجدتُ أنّ معظمه استجداءً، ولست أنكر أنّ في بعضه من الشاعريّة مايلفت، ولست بصدد المدائح التي قيلت في رجال أفذاذ، أو الذين لم يكونوا من أصحاب الأموال، بل كانوا من أصحاب الشهامة، والاستقامة.
هنا ألفت إلى أنّ في أزمنتنا التي عايشناها شعريّا، كان ثمّة من مدح بعض الملوك، ونال معطيات لانعرف شيئا عنها،غير أنّ هذا كان على قلّة، فلقد انصرف الشعراء، في الغالب، في الأزمنة الحديثة، إلى انتماءاتهم الفكريّة، الوطنيّة، القوميّة، الأيديولوجيّة.
في نظري أنّ أكبر الذين خسروا الكثير من قيمتهم الجوهريّة، في مدائحهم، هو الشاعر الباقي على كرّ الأيام « المتنبّي»، فقد قال في مديح كافور الإخشيدي مالا يستطيع قوله غيره، ولم ينل تلك الولاية التي كان يحلم بها، وما أدري ماذا كان سيصنع بها؟ هل سيتلقّى مديح الشعراء مثلا؟!!
في رأيي أنّ تلك التخريجات التي تحايل عليها بعض دارسي الشعر، من أنّ «المتنبّي» كان يذمّ الإخشيدي ولم يمدحه، هي تخريجات لاتغيّر من الحقيقة شيئا، ولو أنّه حصل على ولاية رغب بها، ربما، لم نسمع بذلك الهجاء الذي طار عبر العصور.
بعض الشعراء كانوا يدخلون في مماحكة مع الممدوح، على قلّة ماحدث، بيد أنّها علامة فارقة ، لاسيّما إذا كان الممدوح موصوفا بالبخل.
تروي كتب التراث أنّ عبد الله الأسديّ ، الشاعر، قد وفد على عبد الله بن الزّبير ، وكان قد نصّب نفسه خليفة، فقال الأسديّ الشاعر :« ياأمير المؤمنين، إنّ بيني وبينك رحَماً، مِن قِبَل فلانة الكاهليّة، هي أختنا، قد ولدتْكم، وأنا ابن فلان، فلانة عمّتي»
فقال ابن الزّبير، :« هذا كما ذكرتَ، وإنْ فكّرتَ في هذا أصبْت، الناس كلّهم يرجعون إلى أب واحد، وأمّ واحدة»،
قال الأسديّ الشاعر :ياأمير المؤمنين ، إنّ نفقتي قد ذهبَتْ»، أي لم يبق معه مايُنفق منه.
قال ابن الزبير: ماكنتُ ضمنتُ لأهلك أنّها تكفيك إلى أن ترجع إليهم ،
قال: ياأمير المؤمنين، إنّ ناقتي قد نَقِبَتْ ودَبرتْ ، أي رقّ خفّها، وأصابتْها قرحة،
قال ابن الزبير: أنْجدْ بها يبردْ خُفُّها، وارقعْها بسِبْت، « أي الجلد المدبوغ»، واخْصفْها بِهُلْب،« أي بشعر، أو شعر الخنزير»، وسِرْ عليها البريدين ،
قال الأسدي: إنّما جئتُك مُستحمِلاً، ولم آتك متسوصِفا، لعن اللّه ناقة حملتْني إليك ،
قال ابن الزبير: (إنّ)، وما عليها، أي لعن النّاقة ومَن عليها،
فخرج من عنده وهجاه بأبيات مذكورة.
الذي استوقفَني هو كيف تجرّأ ذلك الشاعر على أن يلعن الناقة التي حملتْه إليه، دون أن يخاف أن يأخذ مابين كتفيه؟
أنا أرجّح أنّ ( بعض) هؤلاء الحكّام كانوا يخافون من المعرّة، وأن يُعيّروا هم وأولادهم، بحسب ذهنية تلك الأزمنة، فتحمّلوا على مضض، أقول بعضهم، وليس كلّهم، ففي تراثنا، كما هو في تراث معظم الأمم، مايشيب منه الولدان من ظلم، وفداحات، والمُشرِق الذي فيه نضمّه إلى روح الأمّة في إبداعها المتميّز الذي خلّفتْه…

عبد الكريم الناعم

المزيد...
آخر الأخبار