خمس وأربعون سنة مرت وما زال المجمر متوقداً والعطر فواحاً ، خمس وأربعون سنة مرت ، وكأن ما حدث كان البارحة ، وكيف للذاكرة أن تنسى تفصيلات قد تكون جزئية ولكنها تحمل من المعاني ما لا يوصف بالكلمات ، كنت في دمشق التي أحببتها حتى الثمالة ، خرجت في ذلك الصباح صباح يوم السبت السادس من تشرين الأول، خرجت من غرفتي التي أستأجرتها في حي العمارة شارع الملك فيصل كان كل شيء عادياً وهادئاً ذاك الصباح الناس يتناولون الخبز المشروح من فرن الحي ، التلاميذ ينطلقون إلى مدارسهم حاملين معهم أحلامهم وآمالهم في ذلك الصباح الندي من صباحات دمشق وهل هناك أندى وأجمل من صباحات دمشق في أيلول وتشرين ؟!!
كنت أسير متمهلاً مفكراً في نتائج القبول في دبلوم الدراسات العليا وأتجه إلى جامعة دمشق مشياً على الأقدام عبر أحياء دمشق القديمة وأنا أتمتم : ما أعظمك يا دمشق !! ما أجملك يا دمشق !! ولكنني كنت أشعر شعوراً خفياً لأن الزمن يسير بطيئاً بطيئاً وأن شيئاً ما سيحدث ، ، ولم أكن أعلم أن ما سيحدث بعد ساعات كان زلزالاً وطنياً قومياً سيضرب الكيان الصهيوني الغاصب ، ولكن الساعة الثانية إلا عشر دقائق أعلنت بداية ذلك الزلزال ، قصف جوي ومدفعي وصاروخي على المواقع الصهيونية في الجولان السوري المحتل ، إنزال جوي على مرصد جبل الشيخ قام به أبطال الوحدات الخاصة ، ولكن كل شيء في دمشق ظل عادياً وهادئاً مما أشعر الناس بالطمأنينة والأمان ، وازداد هذا الشعور الغامر بالطمأنينة والأمان عندما أطل القائد المؤسس حافظ الأسد على الشاشة الصغيرة ليعلن أننا نرد العدوان عن أنفسنا ولا نعتدي على أحد ، وبأن قواتنا انطلقت لتحرير أرضنا المغتصبة من رجس ودنس المعتدين الصهاينة مذكراً المقاتل بأجداده العظماء . وفي اليوم التالي يوم الأحد السابع من تشرين انطلقت مدرعاتنا تجتاز خندق الميم دال الذي يسمى خندق – آلون – .
وكان صديقي وابن بلدتي الشهيد أحمد فرح من أوائل شهداء ذلك العبور ورقص عمه -حسن – بنعشه وهو ينشد – عريسكم يا شباب – كما كان زميلي في دار المعلمين – جميل سرحان – من أوائل شهداء ذلك العبور . وروى لي ابن عمي المقاتل في تشرين أنه عندما رأى رفيقه المقاتل ابن قرية – الخشينية – في الجولان ينكب ويغسل وجهه بترابها بكى وشاركه غسل الوجه بترابها .
وفي اليوم الرابع للحرب يوم الثلاثاء ، كان مجزرة حقيقية للطيران الصهيوني الذي حاول الإغارة على دمشق ، وكان أبناء أحد طيارينا يقفون على الشرفة يتطلعون إلى السماء ويحيون أباهم ورفاقه ، وأبوهم كان : ابراهيم واكيم ، ورفاقه الطيارون : أديب الجرف ، كمال أبو الخير ، غسان عبود ، مجيد الزعبي … الذين نالوا وسام بطل الجمهورية من القائد المؤسس .
كما كان الطيار عدنان الحاج خضر يغرس رجله المبتورة شجرة زيتون في تراب الجولان بعد أن أسقطت طائرته الحوامة وبترت ساقه ، وقام الصهاينة بعد ذلك ببتر ساقه الثانية ، ولا يمكنني أن أنسى مشهد عودته من الأسر على نقالة جرحى حملت من الطائرة العائدة إلى مطار دمشق الدولي وكيف طلب أن توضع النقالة على الأرض ليستطيع تقبيلها ، ولذلك طلب الشاعر نزار قباني ألا يعتذر عن ساقيه المبتورتين بل طلب من الشعب العربي أن يعتذر عن سيقانه الباقية .
إنها ذكريات وتفصيلات جزئية تؤكد أن الأبناء الذين آباؤهم هؤلاء النسور لا تستطيع خفافيش الظلام أن تسقط خوافي أجنحتهم فكيف القوادم ؟!
د. غسان لافي طعمة