كان أبي – طيب الله ثراه – عاشقا ً للشعر سواء أكان شعرا ً شعبيا ً : عتابا ، زجل، شروقي، موال .. أم كان شعرا ً فصيحا ً ، وكان يتابع أخبار الشعراء ، وسمعت منه اسم الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري أول مرة ، وأنا في المرحلة الابتدائية ، إذ كان شديد الإعجاب بقصيدته في رثاء الشهيد العقيد عدنان المالكي، وكان يرددها دائما ً ، فحفظت منه بيتين منهما مطلعها الذي تنطبق عليه مقولة : براعة الاستهلال التي يعجب بها النقاد في قصائد كثيرة :
خلفت غاشية الدموع ورائي وأتيت أقبس جمرة الشهداء
عدنان إن دما ً وهبت رسالة أنا من صميم دعاتها الأمناء
وفي المرحلة الثانوية تعرفت إلى قصيدته التي يرثي بها أخاه جعفرا ً ، ومطلعها :
أتعلم أم أنت لاتعلم بأن جراح الضحايا فم ؟!
وإذا لم تخني الذاكرة فإن شقيقه جعفرا ً استشهد في حركة أو ثورة رشيد الكيلاني التي واجهت الانتداب البريطاني في العراق.
ثم طربت كما طرب الكثيرون لقصيدته – جبهة المجد – مغناة بصوت الفنانة ميادة الحناوي :
شممت تربك لازلفى ولاملقا
وسرت قصدك لاخبا ً ولامزقا
وكان قلبي إلى رؤياك باصرتي
حتى اتهمت عليك العين والحدقا
وأخذت أتابع قصائد هذا الشاعر ، وكم كان سروري عظيما ً عندما وصلتني ذكريات الجواهري في أجزاء هدية من ولده الدكتور كفاح الجواهري الصادرة عن دار الرافدين عام ثمانية وثمانين، وقد كتب في مقدمة الجزء الأول:
أزح عن صدرك الزبدا ودعه يبت ماوجدا
وخل حطام موجدة تناثر فوقه قصدا
وقد جاء في الفصل الأول تحت عنوان – هنا ولدت – ،
ولدت فوق أرض ملحية عطشى بالرغم من أنها على مقربة ميل أو ميلين من مياه الفرات ، على الحد الفاصل بين بساتين الكوفة والحيرة التي كانت ذات يوم رياض العباسيين والساسانيين والمناذرة وبين الصحراء الممتدة إلى نجد والحجاز حتى الربع الخالي، فانفتحت نظرتي الأولى على أفق الصحراء الممتد إلى الأبدية،وتعلمت أول ماتعلمت التحمل والزهد الذي يميز- صل الفلاة- وقد ختم هذا الجزء بالقول: وبعد ، فهذه الصورة الصادقة والمؤتمتة كما حاولت جاهدا ً أن تكون المرحلة الأولى من حياة اختزلتها، وماسيجيء من مراحلها الأخرى بكلمات ثلاث رسمتها على وجه الغلاف من هذه الذكريات .
ولدوا .. فتعذبوا، أما الثالثة – فماتوا- فلم يحن بعد أوانها .د.غسان لافي طعمة