«كتابٌ قد حَوَى دُرَرَ المَعانِي وبَحرُ فوائدٍ لِلمُقتنِيهِ»
«فَلا تَعْجبْ لِهاتِيكَ المَبانِي فإنَّ البَحرَ كُلُّ الدرِّ فيهِ»..
إنّه كتاب «المقدّمة»، للعلّامة المؤرّخ والفيلسوف الاجتماعي العربي «عبد الرّحمن بن محمد بن خَلدون الحِضرَميّ»، (1332- 1406 م)، ينتسب إلى أسرة أندلسيّة، حضرميّة الأصل، بمعنى أنه منْ أسرة يمانيّة حضرميّة، نزح فرعٌ منها قديماً إلى الحجاز، ومنها إلى بلاد المغرب، أثناء فَتْح الأندلس، أو بعده.. وكان «ابن خلدون» منْ أعلام زمانه بِعلم الاجتماع، والإدارة والسياسة والقضاء والأدب والعلوم والتأريخ؛ ينتمي بالمولد إلى تونس الخضراء، وبالمقام والمُصَاهَرة إلى الجزائر، وفيها كتب «مقدّمته» ذائعة الصِّيت، وكانت وفاته بالقاهرة بمصر.. أمّا المغرب، فقد عرفته «فاس»، العاصمة القديمة، (التي كانت تحتلّ الصّدارة بين مراكز الإشعاع الحضاري العربي)، في مختلف المناصب التي تولّاها، بالإضافة إلى علاقته الحميمة بالأندلس، التي كانت امتداداً للمغرب، وفي رحابها، تنقّل بين عاصمة وأخرى، في عصر «ملوك الطوائف»، مُواصِلاً نشاطه السياسي والوظيفي، فاتّسمت حياته بكثرة التّرحال والتنقّل، ممّا يصدق فيه قول شاعر عربيّ: «ما آبَ مِنْ سَفَرٍ إلّا إلى سَفَرِ»! وكان لولاية «تيهرت» الواقعة على مسافة 300 كم من العاصمة الجزائرية، الأهميّة القصوى، في حياته العلميّة، وكانت «تيهرت» تضمّ أطلال «قلعة بني سلامة»، التي اتّخذها «ابن خلدون» مقرّاً لخلوته مدّة أربع سنين، قضاها في تأليف «مقدّمته» الشّهيرة، أي كتابه التاريخي الكبير، الذي أطلق عليه عنوان: «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَنْ عاصَرَهم منْ ذوي السّلطان الأكبر»، وقد أحدث هذا الكتاب ثورة علميّة وفلسفيّة واجتماعيّة، تميّزت ببعدها العالمي، وطابعها الفكري… وقد اشتُهِر «ابن خلدون»، بالمقام الأبرز، بأنّه مؤرّخ وعالِم اجتماع؛ بل يُقال: بأنّ «ابن خلدون هو منشِىء علم الاجتماع، دون مُنازع».. والأثر الخالد الماتِع، الذي تركه لنا، هو هذه «المقدّمة»، الرّائعة الشّائقة، المكوّنة من أربعة أجزاء. يقول الدارسون والباحثون بشأن مؤلّفها: إنّ «ابن خلدون»، كان عالِماً موسوعيّاً، يُلِمّ بكثير من العلوم والفنون، وكان من كبار أئمّة الأدب، وأعلام البيان العربي، امتاز أسلوبه بالسّهولة والوضوح، والتعبير الدّقيق عن الحقائق، وقوّة التّدليل، وترابط الأفكار، وحُسن الأداء، وجودة التّناسق.. يقول «د. علي عبد الواحد وافي»، مُحقّق «مقدّمة ابن خلدون»، التي نشرتها «لجنة البيان العصري»، في جمهورية مصر العربية، بين الأعوام « 1957 و 1962 «: (إنّ أسلوبنا في الكتابة مَدِينٌ لابن خلدون، بأهميّة مقوّماته ومناهِجه).. ومن المعروف، أنّ «مقدّمة ابن خلدون»، قد تُرجِمَت إلى كثرةٍ كاثرةٍ من اللغات الحيّة! بهذا السّياق، يقول د. سام عمّار: «إنّ ابن خلدون يمثّل أنموذج العالِم الموسوعي، والباحث المحقّق المُدقّق»! ويرى ابن خلدون نفسه، «أنّ الخط والكتابة من عِداد الصّنائع الإنسانيّة»، فالخطّ برأيه: «رسوم وأشكال حرفيّة، تدلّ على الكلمات المسموعة، الدّالّة على ما في النّفس، وهو صناعة شرِيفة، إذ الكتابة من خواصّ الإنسان، الذي يميزُ بها عن الحيوان»، (الجزء الثالث، ص (949… فهو هنا، يستعمل لفظة «الخطّ» مرادفة للكتابة، لأنّه يعتبر «الخطّ» أداة الكتابة، وسبيلها إلى التّعبير عمّا في النفوس، فنحن نكتب لِنعبّر عن الذي في نفوسنا، لكنّنا نكتب تبعاً لنظامٍ مُعيَّن، هو هذا الخطّ، وللخط – كما هو معروف – أنواع عديدة مُتكثّرة! يقول بالصفحة ذاتِها «أمّا خروج الكتابة في الإنسان، من القوّة إلى الفعل، فإنّما يكون بالتّعليم».. كما يرى إلى أنّ «العلم والتعلّم طبيعيّان في العمران البشري»، ويعلّل رأيه بأنّ «ما يميز الإنسان عن الحيوان فِكْرُه، الذي يهتدِي به، لتحصيل معاشه، والتعاون مع أبناء جنسِه».. وعنْ هذا الفِكر، تنشأ العلوم والصّنائع والتّنوير والإنارة والوعي.. يقول ابن خلدون بهذا الصّدد: «يتشوّق أهل الجيل الناشِىء، إلى امتلاك العلم، فيسعون إلى تعلّمه، فيقتضي ذلك القيام بالتعليم»، (الجزء الثالث، ص 984، و ص 985)! إنّه يشير إلى دور الفكر في اكتساب المعرفة، وذلك عن طريق حركة الفكر الدّائبة، التي تدفع الإنسان إلى تعلّم ما ليس لديه، عبر تأمُّل الحقائق.. هنا نلمسُ ونتقرّى، أنَّ تعليم العلم، برأي ابن خلدون، (صناعة من جملة الصّنائع)! كما ربط ازْدهار التعليم، بازْدهار العمران، فقد ازدهر التعليم في «القيروان، وقرطبة»، لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة.. الحقَّ، فإنّ ابن خلدون سبق عصره بقرون، حين أشار إلى ما سُمِّي في القرن العشرين، التعليم السّلبي، والتعليم الفعّال: «فالأوّل ناشِىء عنْ طرائق في التعليم، تجعل المعلّم محوره، وتُبقي الطالب ساكتاً، مُتلقّياً، سلبيّاً؛ أمّا الثاني: فعلى العكس، يدعو إلى طرائق، تجعل الطالب فعّالاً، سائِلاً ومُجِيباً، مُحاوِراً ومُناظِراً، وهذا هو جوهر الطرائق التفاعليّة»! هذه المسألة التي نبّه إليها ابن خلدون، بأواخر القرن الرابع عشر الميلادي، هي اليوم أحد أركان الدّعوات المُجدّدة في التعليم، بمختلف مستوياته.. إنَّ القاعدة الذهبيّة، في تعليم العلوم، حسب رأيه: «تقوم على تقديم المضمون مُتدرِّجاً، شيئاً فشيئاً، وبحركاتٍ قليلة، بذلك تكمن الفائدة»! كما يرى، إلى أنّ «الشدّة على المتعلّمين مُضِرَّة بهم، ولا سيّما في أصَاغِرِ الولد، فَمَنْ كان مَرْبَاهُ بالعسفِ والقهر من المتعلمين، أو المماليك، أو الخدم، سَطَا به القهر، وضِيق النّفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحملَه إلى الكذب والخبث، وعلّمه المكر والخديعة، وصارت هذه الصفات عادة له وخُلُقاً، وصار عالَة على غيره»؛ لذلك فهو يدعو المعلّم والوالد، إلى «ألّا يستبدّا بالمتعلّم والولد، حرصاً على صَوْن النفس من مذلّة التّأديب»، (الجزء الرابع، ص 1242 )!
يعترضنا بهذا السياق سؤالٌ استنكاري: من أين لابن خلدون أنْ يعرف الاستقرار، وهو يحمل بين أضلاعه وحناياه فؤاداً جَسُوراً، متمرّداً، وأحوال عالَم متقلّب ساخن، لا يقرّ له قرار، ولا يسكن له أوار؟! يقول في تفاصيل سِيرته الذاتية: (وأنزلُوني بأهلي «أي بني عريف»، }وهم كانوا أصدقاء له{، في «قلعة بني سلامة»، فأقمتُ بها أربعة أعوام، مُتخلّياً عن الشّواغل، وشرَعتُ أؤلّف هذا الكتاب، وأنا مُقيمٌ فيها، وأكملتُ «المقدمة» منه، على ذلك النّحو الغريب، الذي اهتديتُ إليه، في تلك الخلوة)…هناك في قبو هادىء، بتلك «القلعة»، كانت نهاية مطافٍ مضى في عالم السلطة والسياسة، وبداية رحلة تأمُّل وتدوين في عالَم الفكر، وخصوبة الإبداع.. ولولا سيرته الماجدة، ومغامراته المتكثّرة، وتعلّقه بالحياة، «فهو ابنها المتجدّد بتجدّدها»، العاشق لأفراحها وآلامها، لولا ذلك وسواه، لما جاءت «المقدّمة» على هذا المستوى المتفرّد من الإبداع، وسداد الفِكر، ولولا ذلك أيضاً، لما بزغَ هذا الشّهاب السّاطع، في ظلمات القرون الوسطى.. ختاماً، يقول د. سام عمّار: (يظلّ «ابن خلدون» من هُدَاة قافلة الثقافات الإنسانية، بما حصّله من معرفة متنوّعة الآفاق، وما اكتشفه من قوانين تحكم الجماعات البشرية، وربّما يبقى كثيرٌ من أشعّة «ابن خلدون» الوهّاجة، تنير الدّروب، اليوم وغداً)، وفي القابل من سنوات الحياة، لنا، لأجيال اليوم، وللأجيال المُتتابعة بآنٍ معاً..
وجيه حسن
المزيد...