من باب تدوير الزّوايا، ومن نافذة التّخمين والتّأويل، قد يكون العرب أكثرَ الشعوب استخداماً للتّسويف والتأجيل، لأنّ حاضرهم مسلوبٌ مُصادر، وزمنهم الماضي، قد أوشك أنْ يفرغ من حمولته، وإرثه التّليد، لكثرة ما استحلبُوه، وأسقطوا عليه الكثير الجمَّ من رغائبهم البائخة، ومن تسويفاتهم.. وبرغم ما لدينا من دراسات مستقبلية واستراتيجية، فإنّ الشعوب توشك أنْ تهبَّ من هذا القاع المُحاصَر، المملوء بالأفخاخ والأفاعي والخَيبات، إلى الآتي المنشود، إذْ «لم يبق لها إلّا المستقبل، هو حصّتها منْ هذا الزّمن المُحتلّ»! والعربيّ «المؤجّل»، هو الذي يجد نفسه مُحاصَراً بِعُقر روحه ووطنه ، فهو ما أنْ يظفر باستقلالٍ نسبيٍّ، ويكشط عن قلبه وعقله صدأ «الاستعمار» البغيض، حتّى يجد نفسه مُكبّلاً بارتهانات عدّة، وقيودٍ شتّى.. هو يعاني، يحصي أيامه وأنفاسه، بين المطارق والسّنادِين، لا يعرف هُويّة القبضة، التي ستَهوي على أمّ رأسه بالضّربات الموجِعات، وأشدّها إيلاماً: ضربات «ذوي القُربَى»، الذين أضحُوا اليوم – يا للمرارة، ويا مُعتصماه – «ذوي البُعدَى»، أرباب التآمر الفاضح الفاجر، على أبناء جِلدتهم وعروبتهم وقوميّتهم! العربيّ اليوم مُؤجَّل، ممنوع عليه بلوغ سنّ الرُّشد، والخروج عن الوصاية، متعدّدة الرؤوس والأشكال، بالبيت والشارع والمجتمع، كلّ ما يحدث على الساحة، يُغري المُحايد البليد بمواصلة الاعتقاد، «أنّ الانتظار عقيم، والآتي سقيم»، وأنّ الأمّة التي نُزِع منها فتيلُ القوّة، ودسمُ الإرادة، أضحت اليوم رُكاماً من اللحم الهَشّ، لكنّ سليل هذا الدم العربي، والابن غير العاق للأسلاف الأماجد، الذين تقاطر سلسبيل الطّهر من أرواحهم، قد لا يمتثل لموعظة الغُراب، وقد لا يغمد رأسه بين كتفيه كالنّعامة، قائلاً: «لا أعتقد أنّ الدّور التاريخي للنُّخب المُتنوّرة بوطننا الكبير، هو دَور النّدابة المُحترفة، المتنقّلة منْ عزاء لعزاء، كي تعدّد محاسن الموتى، مقابل حفنة ذليلة من المال»! دَوْرُ المثقّفين المتنوّرين الحقيقي، اجتراحُ الطريق بالغابة، وتعليق الأجراس بأعناق النّمور، وليس القطط والمتآمرين فقط! لكنّ الأمْصال، واللقاحات المُستورَدة المغشوشة، «حتى الشّقيقة منها، يا للعار»، التي يُحقَن بها هذا العربيّ، تشلّ مناعته، تصيبه بـ «أنيميا» حادّة بذاكرته وضميره وشرايين «عروبته»! التاريخ الآتي، لا يصنعه الفَسَدَة، ولا المأجُورون، ولا العُملاء، ولا اللاوطنيون، ولا المُستغلّون، ولا الذين خانوا تراب الوطن، وبَشرَه وشجرَه وحجرَه! إنّ عزوفنا عن قراءة التاريخ، والاكتفاء بمتابعة «فبرَكات الإعلام المُضلِّل»، هما اللذان يفقران مصدّاتنا الذهنية، ودفاعاتنا الروحية، ضدّ وابل التزوير، وخباثة النيّات! الحرب الضّروس على «سورية الأم»، منذ ثماني السنوات ونيّف، هي حرب معلنة بالفعل على «العرب المُؤجَّلين»، والدَّور يماشِيهم كالظلّ، إنْ عاجلاً، وإنْ آجلاً..!!
إنّ كلّ ما في هذا العربي – «العُرْبَاني» مُؤجّل: عقله، ثقافة التغيير، اقتصاده، بتروله، مستقبله، قراره السياسي الحرّ المستقلّ، وحتى أحلامه وتطلعاته! فهو منذ نصف قرن وأزيد، وَعَدَتْه بالفردوس الموعود، جاءته من «نُخب» استعمارية، ضالّة مُضلّلة، مستعدّة للبرهنة، أنّ الفيل يطير، وأنّ الفراشة تُرهِب الغابة.. العربي اليوم، خنادقه متعدّدة، يدافع عن حريته، ليستخدمها بحربه المُؤجَّلة، وهو إذ يشتبك بيدين ناحِلتين، وأصابع عزْلاء، ضدّ أخطبوط الفساد والجهل والتخلّف والفقر والبطالة والاصطفافات الضيّقة، فإنّه يجد نفسه فريقاً بإنسان فرد! وحسب أبسط بدهيّات التاريخ، فإنّ هذا الضّرب المتواصل على مؤخّرة الرّأس،»قد يفضي اليوم، أو غداً، أو بعد غدٍ، إلى ما لا يسرُّ الضّارِبين»!!
وجيه حسن