ثالثاً ــ المرأة الموضوع :
تطرح المرأة وجودها بقوَّة انوجادها الحقيقي طرفاً آخر في الوجود الذي تشكّل فيه عنصر الاستمرار و التجدد ، وفي هذا المستوى تتبدّى المرأة لدى الشاعر امرأة بثنائية المرأة الموضوع والأنثى المحمول وفق مستوى من الوعي الساذج الذي يستفسر عن علاقات الشاعر العددية كم امرأة أحببت فيما يبدو أنه سؤال يقترب في بساطة الطرح من معابثة الزوجات لأزواجهنَّ .
وعلى الرغم من إضمار حقيقة السائل من حيث الخصوصية فما يعنينا في هذا المقام هو رد الشاعر الذي استحلى فيما يبدو فعل القص الذي يسرد فيه القصة لتنحى بالقصيدة إلى مسار السرد القصصي وفق تدرج حوار يكون أساساً تنهض عليه معمارية السرد لتنأى اللغة عن مستوى الخطاب إلى مستوى الكلام العادي الذي يتناقله الناس فيما بينهم في مثل هكذا مقام :
« وأنت صادق عبارة منقولة من الكلام فكان الجواب واحدة بدهشة لا !!!
يستحيل فاللواتي لا أشك أنني عرفتهن عنك لا أريد أن أشد آخر الخيطان ما الذي خبأت تحت ذلك الجدار ؟
وأنت صادق وما أقوله الحقيقة البيادر الملقاة في حُبيبة البذار إذ كنت حيث تلمع البروق في المدى يدهمني الصهيل في المهار» وأمام هذه الحقيقة يبدأ الشاعر بسرد قصص علاقاته التي يعددهن وفق نمطيات ما كان يراهن فيه من حالة أو تصور عبر تصاعد دلالات وتنوع أشكال ، فتحضر المرأة من خلال المكان الذي يحيل على الريف فالمرأة الريفية هي تلك التي استهوت الشاعر، وقد شكلت في داخله أولى نوبات الإحساس بالحب الذي يتصاعد إلى ما هو أبعد من فعل الرؤية البصرية السابقة التي كانت فيها العين هي موجه الحب وموقد شعلته ، ليكون الاقتراب الحسي مبعث الحب عند الشاعر ولا تخفى دلالة الشغف في ألفاظ : عنبة ، تفور، العناقيد، توسوس الجرار، وكلها مفردات تكتنز بحمولات التوق للأنثى التي تتشكّل هيئة خلقية ، وجمالاً تكوينياً يبعث على الفتنة والوله فيه :
في كل جرة شيء من افتنان الطين بالفخار ليستتبع ذلك الوله رغبة الاستمتاع بطقوس هذا الجمال الأنثوي، لتكون رحلة إغواء الشاعر على الغوص في هذا الخضم من جمال الأنوثة وعالمها المترامي المجهول القاع : لكل سكرة طقوسها عنوانها ميناؤها في رحلة البحار.
غير أن الشاعر يظل محلقا في عالمه الخاص الذي يرتقي فيه بأنثاه من عالمه الحسي اللحظي إلى عوالم الانشغال بما هو أبعد من المرأة الأنثى ، إنه اهتمام الشاعر بدواخل نزوعه الرومانسي الذي يقترب به إلى عالم المثل والتجلي الصوفي حيث يصبح الشوق أوسع من رحابة المدار ونلحظ هنا دلالة الحسن يفيض علوة طافح رحابة، وكلها تحيل على الحقل الخاص بالتجليات الصوفية وبذلك التنوع واختلاف النظرة تبدو المرأة الأنثى لدى الشاعر: عبد الكريم الناعم واحدة في تعدد نمطيات وتعدد إناث في النظرة التي ترى من خلالها المرأة وحسب اتساع أو ضيق زاوية الرؤية والرؤيا التي تنفتح أو تنغلق بدائرة انفراجها على موشور الهيكل البشري للمرأة لتكون وفق تلك الدائرة امرأة مثالاً أو مثالاً لامرأة : وهكذا ياصاحبي فهنَّ واحدة
وباختلاف ما يُرى تختلف المشاهدة وبهذا الوعي والمستوى من الفهم يبدو انشغال العنوان بمضمون القصيدة، ليشكل والمتن جزءاً لا يتجزأ من عناصر بناء النص كله .
رابعاً ــ المرأة / المحمول
تحضر المرأة في هذه القصيدة الومضة الموسومة بـ السؤال : (إلى متى ) ؟ !!
من خلال اسلوب الاستفهام الذي يستلزم طرفاً في إقامة جسر من التواصل بهدف اكتمال المشهد
غير أن السؤال هنا، إنما هو سؤال العارف الذي لا ينتظر الجواب ، فهو تساؤل الذات مع داخلها فيما يقترب من الحوار الداخلي المونولوج الذي يجد الشاعر نفسه محاطاً بهذا الولع بالأنثى التي يوقظ فيه صوتها مشاعر التوق، وكوامن العشق والرغبات الحبيسة :
يأتيه صوت مرأة
من آخر الدنيا
فتصهل الجهاتْ
كيف لهذا الصوت أن يمتلك قدرة الزلزلة في كيان الشاعر الذي يشعر بأن الجهات كلها تنتفض من حوله محمحمة باتجاه الصوت الذي يأتي من أقصى مكان في الدنيا ، فأي طاقة يمتلكها ذاك الصوت القادم ، وعن أية امرأة يتحدث الشاعر إنه ألق الفكرة التي تلتمع في ذهن الشاعر وهي تجتاز أقبية الخيال في محاولتها الوصول إلى تشكيل جمالي يتوازى ، وخلق الشاعر لشكل باعثة ذاك الصوت:
إلى متى
يظلُّ حاملاً
حنينه
إلى
ما ليس
ياتْ ؟!!
ومن هنا يجترح السؤال الذي يتغصص مرارة الجواب الذي لا يريد أن يعرفه ، ليبقى الأمل مفتوحاً على احتمالٍ لا يقع ، وحدثٍ لن يتحقَّق ، إذن ثمة محمول مُبتغى في موضوعٍ مُتهيأ.
د. وليد العرفي