ثلاث قصص قصيرة

ثلاثة رجال
بزمنٍ ليس بعيداً، تراهنَ ثلاثة رجال، على أيّهم تكون له الصّدارة بإنجاز المهمّة الصّعبة..!!
شروط اللعبة لم تكن مكشوفة تماماً.
الأوّل:
ربّما تكون مكتوبة على أوْراق شجر الليل.
الثاني:
لعلّها بسِياق خيوط الشّمس الأولى، وهي تسقط على بلّورات حُبَيبات النّدى، التي تعلو زهرات عبّاد الشّمس.
الثالث:
قد تكون مكتوبة على صفحة جدول رَقْراق..
الدّروب كانت بلا أجنحة.. ثلاثتهم انطلقوا عَبْرَها، لكن على غيرِ هدى. ثمّة طائر قاد الأوّل.. ثمّة نجم مضيء، اجتذب توهّجُه الرجلَ الثاني.. وهناك صوت رخيم، خلبَ بسحرِهِ فؤادَ الثالث!
امتطى الأوّل صهوة طائر قويّ، ضربَ في فجاجِ الأرض، مُتتبّعاً ظلَّ الطائر المُتهاوِي نحوَ اليابسة!
عينا الثاني، تعلّقتا بنجمٍ متوهّج، بليلةٍ حالكة السّواد.. الثالث هامَ على وجهه، يتسقّط مصدر الصّوت الرَّخيم السّاحر..
تصرّمَتِ السّنون.. صارت دهراً مُعتّقاً! وبيوم أصمّ، عاد الثلاثة من رحلة المُستحيل! نحَرَتْ خطواتهم شوارعَ المدينة، أزقّتها، لم يمض وقتٌ طويل، حتى كانوا طيَّ ساحةٍ عامّةٍ، غصَّت بالحاضرين.. أسئلة شتَّى تعلو الرّؤوس، منْ فرط الاندهاش والترقّب!
قال أحد الحاضرين:
ما أطول هذه الّلحى..
نبسَ آخر مُسْتهجناً:
انظروا إلى شكل الأظفار وألوانها..
باستغرابٍ قال ثالث:
تبدو كأنّها لطيورٍ جارِحة، أوْ لِوحوشٍ ضارِية!
صرخَ أكبر القوم، وكان الغضبُ ينزُّ منْ عينيه الضّافيتين:
كائنات غريبة مُرْعِبة، خذوها، ارمُوا بها خلفَ بوّابة الشّمس، فنستريح!
أمسك بهم عدد من الحاضرين، جرُّوهم من لِحَاهُم البِيض المُشَوَّشة، بينما كان الرّجال الثلاثة يردّدون بصوتٍ جماعيّ:
أيّها السّادة..اصبرُوا علينا.. دَعُونا وشأننا، لمْ نُنْجِزِ المُهمّة الصّعبة بعد!

ثلاث نساء
كُنَّ ثلاثاً.. جلسْنَ في حلقةٍ مُستديرةٍ مُواجَهَةً.. يتحدّثن بأمورٍ شتّى.. غرّبن بأحاديثهنّ وشرّقنَ.. خُضْنَ في السِّيَر الذاتية للناس، حتى توّحلَت ألسنتُهنّ.. بلْ ما لبثت أنْ وصلت تخومَ البقاع المُحرَّمة! استغفرت كبراهنّ ربّها ثلاثاً، ثمّ قالت:
«ما أغربَ أحوال الناس»!
تنهّدت الوسطى مُسْتدْرِكة:
لكنّ أحوال الحياة أكثر غرابة وتلوّناً!
انغمرت الصّغرى بنهر الحوار، نَبَسَتْ:
إنّكما تهزلان…
انبرت الكبرى والوسطى للردّ، قالتا:
كيف؟
«البحر.. والسّمك»!
ما المقصود؟
هل ترون أنّ السّمك ينفصل عن البحر؟
في حالة الموت فقط.. يأكل بعضه!
وإذا جاعَ؟
لماذا يبدو لكما الأمر غريباً؟!
حاولت الكبرى تغيير مجرى الحوار، وهي تحجب بكفّيها أشعّة شمس الأصيل الواهنة، التي تسلّلت عبر زجاج النافذة، ثاقبة عَينيْها.. لكنها ما لبثت أنْ وجّهت حديثها للوسطى:
رجاءً أسدلي الستائر!
نحن في الخريف، شمسُه طريّة..
عيناي حسّاستان، لا تقويان على مجابهة الضّوء!
الصّغرى تساءلت:
أين نظارتُك؟
نسيتها، وأنا أهمّ بالخروج لهذا اللقاء..
همست الوسطى للصّغرى } بل هي تتعمّد نسيانها، أو الأصحّ تناسِيها، حتى لا تبدو للعيان، أنها تجاوزت الخمسين{!
خفَتَ همسُ الصّغرى، حتى صار مُنكَتِماً، وهي تتساءل بِسرِّها: «أهي بالخمسين حقّاً»؟
التصق الفم بالأذن المُصْغِية، بينما اللسان يستحلبُ الكلمات: «لا يغرّنك المظاهر والزّينة والماكياج وعمليّات الشدّ، صاحبتنا تتصابَى…»!
خمّنت الكبرى، أنَّ الهمس يعنيها، ومُوجَّه إليها، وإلّا لماذا لا يعيرانِها أدنى اهتمام؟ هنا تساءلتْ، وأشواك الرّيبة تخزُ قلبها وخزاً:
ما بالكما تتهامسان وتتغامزان, مع أنّ العادة جرَت، أنْ يكون الهمس ثلاثيَّ الأبعاد؟
توّلت الوسطى مهمّة التصدّي لهجمةٍ، تبدو أنّها ستكون شرسة، لا محالة!
حديث خاص يا عزيزتي، أنتِ لستِ ضِلعاً فيه..
هذا حقّ.. لكنّي قاعدتُه، وأنتما ضِلعَاه!
ردّت الصغرى:
ما المقصود؟
كلامي مفهوم.. أنتما تُثرثران عليّ، وأنا أجالسكما.. تبّاً لهذه الجلسة المَنكُودة.. أتساءل: ماذا لو غِبتُ عنكما؟ حينها كيف ستنهشانِ لحمي؟ ما عواقب النّميمة على مُطلِقيها؟
بنزقٍ نبسَتِ الوسطى:
لسنا أسماك قرشٍ، حتى ننهشَ لحمكِ، فأنا وصديقتي قطّتان مغمضتان، لا تخافي!
هنا، ارتفع صوت الصّغرى، سقطت الأقنعة، أسفرت الوجوه عن بشاعة المضامين:
«كم أنتَ مجنيٌّ عليكَ أيّها الزَّمن»..

ثلاث مدن
هنّ ثلاث مدن بواحدة، تربط بينهنّ جسور، المدينة الواقعة غرب النّهر أقدمُهُنّ، وأكثرهنّ عرَاقة.. التي تقع شرقه، تتمايز برحابة أطرافها، وامتدادها الأفقي.. أمّا التي تتوسطهما، فَلَها الصّدارة والحظوة! أهُمَا صنوان لها يا تُرى؟ هل تجرؤ إحداهما على مُضاهاتِها؟ لعلّ أقدمَها يشفع لها عبق التاريخ، الذي يفوح من أزقّتها وأسواقها.. وربّما يتسرّبُ إلى ظنّ الأخرى، أنّ الحدائق التي تحفّ بها، والهواء الخَضِل، الذي يكسر قليلاً منْ حِدّة أدخنة المصانع، وعوادِم السيارات، قد يجعلانها بموقع المُنافِس.. لكنها هي «واسطة العِقد».. هي الواجهة.. هي الشّرفة التي تطلّ منها مناحي البلاد، على باقي دول المعمورة.. كانت كالمنارة.. كانت جسراً.. لغة جديدة.. فتاة فاتنة قُدّت من شجر «الأبنوس»، وأخرى يجري في بياض عينيها نهرٌ من العسل.. قد سطَتْ خلسة على لون الحِنطة، طلَت به جلدها!
* * *
الطائر الميمون يخفق بجناحيه بفضاءات المدن الرَّحيبة الأليفة.. يقولون «الفضاء ربيع».. البحر الهائج يأخذنا طيّ أمواجه العاتية، يلقي بنا على السّاحل، السؤال: «هذا هو البحر، فأينَ السّاحل»؟ ثلاثتهم كانوا غرباء.. وثلاثتهنّ، قال الرّاوي لنفسه: و»أنا الغريب .. أهي ألفة الغرباء، ما الذي جمعَ بين الثلاثة، والثلاث؟! لا لن أنكأ جرحاً جديداً، تكفينا روافد الجراح القديمة المُعَتّقة! ما أبشع مشاهدة «أسماك قِرْش»، وهي تتحرّك مطمئنة على كثبان الرّمل، وسجّادة الحياة، وسط الشوارع المكتظّة بالناس.
وجيه حسن

 

المزيد...
آخر الأخبار