الثقافة حاجة واحتياج ونزوع إلى أسلوب حياة أكثر اختلافاً، وليس تماثلاً، وكيف نأتي -في مشهدنا الثقافي- إلى تجليات الثقافة في الفنون كافة، مالم يكن قاسمها المشترك هو الإنسان قيمةً وغايةً، لا وسيلةً فحسب.
مشهد تتواتر سجالاته ما بين منتجٍ ومتلقٍ، وقلق السابق على اللاحق، كيف يؤول إلى خواتيم مشتهاة، لا تواسي مضاعفة جرعة الخوف على الهوية، بقدر ما تؤسس إلى حقيقة باتت اليوم كليةً بمعنى من المعاني، أكثر منها متشظية تنوس بوصلتها بين من يدّعي القبض على الحقيقة كاملة، وبين من يرى أنه مكمّل لها، وهذا ما نعنيه بالوعي الجمعي، إذاً لا حقيقة للثقافة إن لم تكن ترجمة للوعي الجمعي دون تجاوز فرادات بعينها وخصوصيات إنسانية فردية أيضاً.
فهل ننجح وبعيداً عن تلك النزعة التقليدية في تأويل إشكالاتنا الثقافية، أي في جلد الذات أو جاذبية الاستلاب للآخر –خارج أنساقنا الثقافية والمعرفية- ونظل في إثر نخبة مازلنا نسائلها ونستحضر أدوارها، ولعلها الغائبة الأكثر عن ميادين الأفعال الثقافية، من اطمأنت إلى أنها أنجزت وكفى، وينبغي للذائقة أن تقف عندها فحسب؟!
وإنسان الثقافة ليس كائناً مجازياً –بطبيعة الحال- ولا يقيم في جزر معزولة، وليس من شأنه البحث عن خواء الترف، بل هو اللصيق والمتجذر في هذه الثقافة التي أصبح لها حراسها، من ظلوا سياج الوطن، وأخصبوا شقائق النعمان.
إذن كيف نستدعي هذه الثقافة الأصيلة والمتجددة في سياق أفعالنا الثقافية، لا نتعلل بمشهدياتها الباذخة، بقدر ما نذهب إلى المعنى الذي يجعل من الثقافة أسلوب حياة بحق، ثقافة من ظلوا مرابطين على هذه الأرض بوصفها خندقهم الأخير، وواسطة عقد أرواحهم، تلك ماهية حقائق الإبداع وتجلياته وألوان طيفه المتعددة والمختلفة، لكنها في نسيج رؤيوي واحد هو الهوية بتعبيراتها الأكثر وضوحاً في مشهدنا الثقافي، حينما تكون منمنمات الأرواح نبض القصائد وسرديات السوريين روح الروايات، وإلهام التشكيليين، بمعنى صيرورة هذه الأشياء في الوعي الحارس أولاً، قبل أن تكون منظومة عقدية جديدة تجعل من إنسان هذه الثقافة خارج الخطابات العابرة، كاستحقاق وجودي ينافح بالذاكرة وبالأثر عن وجوده، وعن أحلامه الرائيات، فالمبصرون في الحلم هم أبناء الحياة، كان ذلك أمثولة تعلل بها الإبداع طويلاً، واجترح منها غير نشيد للخلاص، ذلك درس الأدب الأعلى حينما يقرّب للوعي الجمعي تلك المنظومة، ولكن بشرط الفن، لأن بناء الأرواح غدا في صلب مهام التنوير استئصالاً لثقافة القبح مهما تبدت «بجمالياتها»، ذلك قدر وسر وسيرة تجمع في أتونها خلاصات للمعيش واليومي الذي لا ينفك عن صنع الحياة، وهي المتخففة من آثام قبائح تزينت بالجهل، وإرهاب مازال يقتل الروح قبل الجسد، هو مستقبل الكلام حينما يفيء جمره إلى نور ونتطير من استقراء ناره المطفأة!.
هكذا تساءلنا الثقافة منجزاً ورؤى وتصورات، تتخلق فيما هو متغير وقوفاً عنده، لا عصفاً بالثوابت، في الوجدان الجمعي السوري، كما نلقي عليها كل أسئلتنا الشاقة، أسئلة المغامرة المثيرة فيما يدون الآن تحت شمس واضحة وفيما تختزنه الأرواح، أرواح من ظلوا هنا، ليكونوا المكان بذاته وعناوينه الطليقة التي تدل على الحياة، وعلى معراج الأحلام التي لا يجرؤ عليها ظلام طارئ، بل هي في أبدية النور… التاريخ والحضارة وتجذّر الإنسان في أرض راسخة كالهوية، وللثقافة أن تتغذى على استراتيجيات القول لا ارتباك راهنها قليلاً، كي توزع شغف الأرواح على فنونها، إذن إن فنونها لا تُهزم، فخيوطها معقودة من شموس لا تغيب.
أحمد علي هلال
المزيد...