أعتقد أن الشاعر طالب همّاش يضعنا بدءاً من عنوان مجموعته أمام رؤيته الشعرية المحيطة بالحزن الجارح والشجن النائح لما جرى في وطننا سورية فهو يطلب من الهواء المداعب دائماً لشجر الحور أن يحول هذه الأشجار إلى نايات تطلق آهاتها وحسراتها وأنفاسها اللاهبة توجعاً وأنيناً لما حدث في وطننا سورية . وما حدث للمكان والإنسان كان مروعاً !!
وهذا المروّع يفصح عن نفسه في المعجم اللفظي للشاعر أولاً ، وسأعتمد في لملمة هذا القاموس اللفظي على القصيدتين الأولى : – وترية ريح لأحزان بلادي – والقصيدة الثانية – لا غريب الدار يعرفنا ولا الجار – . ففي القصيدة الأولى نجد : – النائح ، المتوحش ، تتأرجح ، أحزان ، غربتها ، أشجانك، الشجن المجروح ، القصب المبحوح ، الغيم العابر ، جراح ، منتحب ، يتنهد ، جريح ، دمعته ، الدمع ، الوحشة ، الموت ، الغربة ، بكاء ، مر ، يتألم ، تتمزق ، حسرات ، سود ، المهجورة ، بكوات ، المنتحبة ، ضائعة ، المجروحة ، المغتصبة .
وفي القصيدة الثانية : الخريف ، رحلوا ، الدمعات ، العبدات ، هجروا ، راحوا ، الشجية ، يلوّع ، كآبة ، الباكي ، تعوي ، أوجاع ، نعش ، الحزن ، نعي ، النائي ، المعذب ، حداة الهجر ، ناحوا ، المرارة ، العزاءات ، الغروب ، مدفون ، العتامة ، أسف ، ضنى ،الأغراب ، التناويح ، طعن ، الحسرات ، الندم ، قتلوا ، أساها ، قبرنا، المهجور ، غابوا ، الفقد ، جرحاها ، النعوش ، شتاء ، أغراب ، كآبة ، الخوف ، وداعنا ، الرحيل ، عمياء ، الألم الممزق ، الضرير ، البرد -.
والمروّع الذي أفصح عن نفسه في المعجم اللفظي يفصح عن نفسه بشكل أكثر حدّة وشدة في دلالات الصور الصارخة غير المألوفة ، فالروح كالكونشيرتو المتوحش في الريح ، والمغرب بحر جراح منتحب . وهو يقف وحيداً كالمطرود ، وحزن الروح حريق ، مما يذكر بنمط بدئي هو آدم ، ومما يلفت النظر هذا التماهي في التصوير مع الآخر ، مع الطبيعة إذ لا يمكن الفصل بينهما ، فهما كل متكامل في رسم صورة الفاجعة :
« أنت ترخّم أشجانك في الريح
كمزمار وتري
يتنهنه بالشجن المجروح
وأنا أستنشق كالمخمور
حفيف الحور المرّ
وتنويحات القصب النائح والمبحوح»
هذا الحضور للرياح ، لم يعد ذلك الحضور التقليدي ، لم تعد الرياح حاملة لمراسيل الحب والشوق ، يرسلها المغرّب إلى وطنه وأهله وينتظر جواباً ، كما لدى الشاعر جورج صيدح :
– وطني حتام ترتد الصبا
دون أن تحمل من سلماي رد ؟
فالرياح لدى الشاعر طالب هماش لها بوق هو مزمار مصيرنا المحتوم ، يرتبط بشتاء العمر بالنعوش :
« هذي حكايات الرياح
وصوت جرحاها يعشعش في الشبابيك القديمة
كالنعوش
فيا شتاء العمر هل بوق الرياح
ورجعه .. لمصيرنا المحتوم مزمار ؟!»
إنه شعور الفقد الذي يمزق روح الإنسان ، وهذا الفقد كان في برهةٍ سوداء لم تشهد لها البشرية مثيلاً ، ومن بقي بعد الفقد يقف أمام الدار الخاوية ، يتحسس اللحظات الإنسانية، ولكن الإنسان لم يعد هنا ، والزمان خريف ، ولذلك لا يجد الشاعر إلا آخر الرمان لكي يسأله عن أهل الدار :
« يا آخر الرمان
هل في الدار من أحدٍ
يزحزح آخر العبرات
في أعقاب من هجروا وراحوا ؟
وهل المواويل الشجية ما يلوّع بالحنين
كآبة الباكي
أم الريح التي تعوي بأوجاع القلوب
تشد نعش الحزن إن صعبت جراح ؟.
لا أغالي إذا قلت : إن الشاعر طالب همّاش يؤرخ في شعرٍ راقٍ مأساة الشعب السوري الذي هاجمه العدوان كالطوفان ، ولا أغالي إذا قلت : إن الشاعر يرتقي في رثائه الطبيعة والبشر إلى مستوى يفوق فيه كل ما قيل في رثاء المكان والزمان والإنسان من رثاء – إرميا – إلى رثاء – نينوى – ورثاء أبي البقاء الرندي لغرناطة وبلنسية وقرطبة . ورثاء – جلجامش – صديقه :- أنكيدو – في الملحمة السومرية . إنه يعبّر عن وجدٍ وطني إنساني عميق شفيف بأسلوب سهلٍ ممتنع ، يتفوّق في التعبير عن اللحظة المأساوية ، التي هي بؤرة الحالة الشعرية :
« فيا أمي
يذوب الدمع في عين الغريب
ولا تذوب دموع من تركوا المنازل !
فيا ليت الذين تغرّبوا
قالوا : وداعاً
قبل أن يمضوا إلى مدن الغياب
وليت لم نرسل
ونحن نشيّع الأيام بعدهم
حمام الوحشة الزاجل »
حقاً إن هواء الشاعر طالب همّاش قد حوّل أشجار الحور إلى نايات تتناغم آهاتها المجروحة لتشكل سمفونية الإنسان السوري التي تمتد إلى شرفات البيوت إلى البساتين اليابسة ، إلى أغاني الرحيل إلى الخريف الأصفر القاسي الذي روّج له بني صهيون ..!!!
د.غسان لافي طعمة
المزيد...