الأعمال الدرامية التلفزيونية المتسلسلة والتي تمتد على أكثر من 25 ساعة تلفزيونية، موزعة على 30 يوماً للمشاهدة، هي في حقيقتها خلل جيني في “صلب الدراما” التي هي في أساسها “قصة- حكاية” تحدث دون انقطاع في الزمن الحقيقي، وهذا ما يجب أن تفعله بالزمن المفتعل للدراما، والذي سيصبح زمنها، زمن القصة.
أولى علائم هذا التشوّه الجيني هو زمن القصة، الذي تغيّر في الدراما التلفزيونية مفهومه وجوهره، فالزمن وحدة لا ينقطع، وانقطاع الزمن يعني نهاية القصة، بغض النظر إن كانت قد قالت ما تريده أم لم تفعل. اليوم نحن أمام ثلاثين حلقة، مدة كل منها 45 دقيقة، أي زمن ووقت مهدور على حكاية واحدة –بغض النظر عن جودتها أيضاً- يكفي لحكاية ثلاثين قصة وأكثر. الخطير في هذا الخلل الزمني أيضاً أنه يضرب إحساس الناس بأهمية الزمن، فيغدو زمنهم مثل فنّهم مشتتاً ومقطّع الأوصال –حال الدراما التلفزيونية-، فلنتساءل قبل أن نسوق حجتنا على ما نقول: ما هو الوقت المثالي لحكاية قصة؟ أطول وأعقد قصة يمكن أن تُحكى في ثلاث ساعات سينمائية أو مسرحية، حيث إن زمن العمل السينمائي أو المسرحي هو الأكثر ملاءمة لتقديم القصة، فما الذي يجعل القصة التي تحمل الشروط الفنية ذاتها “بداية– ذروة- نهاية” قابلة “للمط” من ثلاث ساعات مثلاً إلى 35 أو 30 حلقة، وحتى إلى مئة حلقة، مدة الواحدة منها قرابة الستين دقيقة؟ مثل المسلسلات المكسيكية.
هذا السؤال الجواب عنه عند شركات الإنتاج التي ربطت الدراما العربية في شهر رمضان مثلا، بعد أن صار المطلوب سجن الناس أطول فترة ممكنة في بيوتهم، فترة أطول من الوقت المعتاد، وبالتالي غربة أكثر عن الحياة والناس والتواصل الفعلي والحيّ، ومن لهذه المهمة إلّا التلفزيون، وما يقدّمه من أعمال منوعة، أهمها المسلسلات التي راحت تتكاثر كالفطر؟ المفكرون والفلاسفة والكتّاب وصفوه بـ« طاعون العائلة»س، فعوض ساعتين أو ثلاث لمشاهدة فيلم سينمائي، أو عمل مسرحي، أهم ما في كلّ منهما، أن على من يريد أن يتابعهما، أن يذهب إليهما، في حين نجد الحالة عكسية ومريبة تماماً في التلفزيون وما يبثّه ومجاناً أيضاً، كحال القنوات التلفزيونية التي تديرها شبكات ضخمة من رؤوس الأموال العالمية، والتي بالتأكيد لا تعتمد على الإعلان فقط لتستمر، بل وعلى ما تقدّمه من دعم لها مؤسسات ودول لتتبنى مقولة مالكها، هكذا وتحت ضغط من رأس المال الجاهل والخبيث أيضاً، إضافة للحرب الفنية الخفية بين الفنون، تحولت القصة الدرامية بشكل نهائي، وصارت شيئاً شبيهاً بمفهوم الدعاية المكررة الطويلة، التي تعتمد على الحسناوات والوسيمين للنهوض في قصة تافهة بلا معنى –حال الدراما العربية المشتركة الجديدة- تبدلت من حكاية لها ألقها المحكوم والناجح، لأنها تقيّدت بشروطها الفنية اللازمة والضرورية، التي عرفها الناس وفهموها وأحبوها –انظروا أهم وأنجح الأعمال السينمائية والمسرحية- تحت ضغط ملء ساعات البث التلفزيوني الذي لا ينتهي، إلى عدة قصص محشورة في ساعات تلفزيونية بلا معنى، والشخصية الرئيسية صارت شخصيات، فلم نعد نرى إلّا البطولات المشتركة التي كان لها دور كبير الضرر في حكاية الحكاية.
عندما تكون القصة جيدة، يكون العمل الدرامي المبنيّ عليها جيداً بالضرورة، إلّا أن هذا لا ينسحب على الدراما التلفزيونية التي نسفت مفهوم القصة، بنسفها لزمنها، ومطمطتها.
المزيد...