حين أعود للماضي فليس حبّا في القصّ، على ما فيه من مُتعة، وليس للتواصل مع الآخر، على أهميّته، بل ثمّة قيمة ما تدلّ على ذاتها.
حين ذهبتُ للجزائر عام 1975 مُعاراً، وبعد أن يئستُ من ملاقاة مَن وعدني أن يكون بانتظاري، وعوني، وكان وصولي أوّل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، ولرمضان في الجزائر حضوره الخاص، فلا ترى في الشارع من يأكل، فالجميع يتقيّدون بالطقوس الرمضانية، لأنّ التقاليد الإسلامية أخذتْ أثناء مقارعة الاحتلال الفرنسي للجزائر صيغة التّعبير عن الشخصيّة الوطنيّة، فإذا دخل فرنسي أو أيّ أجنبيّ أحد المطاعم، وطلب الطعام، فسوف تكون خدمته على ما يقتضيه الحال، أمّا إذا دخل عربيّ، وطلب الطعام فإنّ النّادل يعبس في وجهه، ويقول له باللهجة الجزائريّة:» ما كانشْ الماكْلَة هيّا أخرجْ « أي لا يوجد طعام، ويطرده.
حين يئست، ذهبتُ للالتحاق في بلدة « سيدي عيش» في منطقة القبايل الصغرى/ الأمازيغ، وصادف وصول القطار محطته فيها قرب أذان المغرب، ولأنّني غريب ولا أعرف كيف أتصرّف وجدتُ أنّ سيارات الأجرة قد تسابق إليها قاصدو بيوتهم، وبقيت أنتظر حتى لم يبق ما يدلّ على أنّ ثمّة سيارة تُنتَطر، ومعي حقيبتان كبيرتان، فاضطررتُ لجرّهما حيناً، ولحملهما حينا آخر، وبلغ بي الجهد حدّ الإرهاق، وقطعتُ مسافة كيلو مترين، وربّما أزيد، وحين وصلت باحة البلدة، سألت عن فندق، فدُللتُ على فندق، طابقه الأرضي أشبه بكافتريا، وفي الأعلى غرف المنامة ، وهو بناء يدلّ كلّ ما فيه على أنّه قديم، وضعتُ أحمالي، وتناولتُ قطعة (كاتو مع الكريما)، وصعدتُ أريد أنْ أخلد لشيء من الراحة بعد ذلك الجهد الذي لا يعرفه إلاّ مَن ذاقه.
مرّ بالفندق معلّم سوريّ (متعاقد) مضى على إقامته في تلك البلدة بضع سنوات، فهو يعرفها جيداً وأهلها يعرفونه، بضع سنوات دون أيّ مجيء لسوريّة، .. مرّ بالفندق فرآه صاحبه فخرج إليه وقال له أنّ سوريّا نزل في هذا الفندق قبل أقلّ من ساعة،
خلعتُ بعض ملابسي، وداهمني حنين مشوب بالغربة الكئيبة، والقهر، وكلّ عرْق في ّينبض تعبا، وألماً، وندماً، فجأة قُرع باب الغرفة ففتحتُه وفي وجهي علامات الاستغراب، فأنا أريد أنْ أغمض عينيّ ولو قليلا عسى أن يغيب عن وعيي ما أنا فيه، فتحتُ الباب، كان شابّا عريض المنكبين، تفاصيل جسده توحي بأنّه رياضيّ، وعلى وجهه ابتسامة مرحِّبة، فصافحني وقال لي:» أنا يونس الحموي» من حمص، رنّت كلّ أجراس الحنين في أبراج روحي حين ذكر حمص، قلت له:» ….
من حمص»، زوى بين عينيه باستغراب، وقال :» مو معقول»!! قلت له:» جواز سفري موجود لدى صاحب الفندق تستطيع التأكّد ممّا أقول» فكرّر باللهجة ذاتها:» مو معقول»!! قلت له : أحلف لك يميناً»؟، فقال بحزم مَن لا يريد المناقشة:» قُمْ قُم ضبّ أغراضك، والله لن تنام ليلة واحدة في هذا الفندق، أتنام فيه وأنا عندي بيت»؟!! حاولتُ جاهداً أن أتملّص، واستيقظت في داخلي رغبة بالبكاء، ورجوتُه فلم أفلح، وكان أن أخذني إلى بيته، ولم يكن عنده من الأولاد إلاّ ابنه « أوراس»، كان طفلاّ صغيراً، وأقمتُ في ضيافته قُرابة العشرين يوماً، إذْ جاء أخو زوجته هو وزوجته وأطفاله في إعارة إلى بلدة قريبة من البلدة التي نحن فيها، فأصررت على أنْ ألتحق بالغرف التي استأجرها شرقيّون مثلي ريثما تنحلّ أمور تدبير مساكن لهم، وانتهى ذلك العام الدراسي، وعدتُ إلى سوريّة، وعاد هو بعد عدّة سنوات والتقينا في أوقات متباعدة،
قبل أيام قليلة خطر لي أن أهاتفه، فأنا لا أستطيع نسيان مَن ضيّفني فنجان قهوة، فكيف بمن استضافني، وما أدري كيف خطر ببالي خاطر سوء، لا أدري دوافعه وأسبابه، فاتًصلت برقم هاتفه، فردّت السيدة زوجته، ولمّا سألتُها عنه، قالت:» أعطاك عمره منذ عدّة شهور»
الرحمة لك أبو أوراس، يقولون في عاميتنا:» الحيّ مطموع فيه»، لك يَد عندي لاينساها إلاّ ابن حرام…
عبد الكريم النّاعم