أشكو لِمَنْ؟
تقول جدّاتنا الطّاعنات بالعمر: «في الحياة مشكلات عويصة، على عدد نبات الأرض».. ويقلن: «لم يعد لنا جيران، نعرفهم ويعرفوننا، كما هي الحال بالماضي الجميل.. كان الجار يخاف على جاره، يساعده، يقف إلى جانبه بالسرّاء والضرّاء»، أمّا اليوم لم يعد لنا سابعُ جار، ولا الأربعون، هل اضمحلَّ وجه المثل: «جارُك القريب أحسنُ من أخيك البعيد»؟ العالَم بالعقود الخوالي كان غامضاً متباعداً، لكنه كان أجمل، أرْحَب، أحلى، أكثر التئاماً وفرَحاً وحميميّة، أمّا في حياتنا الرّاهنة، عندما تحوّل هذا العالَم الضّافي الوسيع، إلى «قرية صغيرة»، فقد أصبح مشوّهاً مرْعباً موحِشاً، لا علاقة لنا به، لأننا ضدّ التّشويه والرّعب والسّقوط والتوحّش والإجرام بآن! وراهناً، تنازل هذا العالَم القرويّ الصّغير عن البراءة والشّعر والطفولة، هكذا صغُر، اضمحلّت فيه عناقيد الفرح، كثرت أشواك الآلام والأحزان ، لأنه أصبح عالَم الارْتكاس وظلم الإنسان لأخيه الإنسان! نعم هكذا صغر العالَم، صار قرية، أو أشبه بالقرية، لكن بهذه القرية، كبرت رغباتنا والمنافي والآهات، تشظّت أفراحنا، ومن أسف، توشّحت شموس الألفة والودّ بوشاح البعد والتّجافي والنّرجسيّة، فصار كلٌّ منّا يردّد بِدخيلته مُستاءً: «يا ربّي نفسي، ومنْ بعدي الطوفان»..
* * *
أشكو همومَ الرّوح لِمَنْ؟
أأشكوها إلى القصيدة، التي ذهبت هي الأخرى إلى الضَّعف والرّكاكة والسُّخْف؟ أو ذهبت إلى الغربة والوحشة والمنفى، فالشعراء الأفذاذ في كثيرٍ من البلدان ينقرضون، كما الطيور النّادرة، و»الحيوانات» القليلة، في حين تظهر (الدّيناصورات) إلى ساحات الحياة من جديد، وهي تشمخ بأنوفها، تعتدّ بأجسادها، وعوامل سطوتها! إنّه لعمري، عالَم صغير ضيّق خانق، تضغط أظفاره على الأعناق، فتدمِيها، وتوجِعها، عالَم تموت فيه الطيور والزّهور والأمواه والأضواء والطفولة، لتنتشر فيه «خفافيش الليل»، و»هوام النّهار»! الدكتاتوريات المُرْعبة، رؤوس الأفاعي، جبروت الطغاة، حِيتان المال، صنّاع الموت الزّؤام، «عباقرة» قتْل الشعوب المُسْتَضعَفَة وتجويعها، فلسفة الاحتلالات القديمة، و»أباطرة» الإرْهاب، يعودون اليوم إلى الحياة، بعدما خرجوا من قبورهم الماضية، التي كنّا نتوقّع، أنّها صارت إلى أطلالٍ عفا عليها الزّمن.. التاريخ يعيد نفسه، والجغرافيا تعيد نفسها، فالبشر اليوم، بهذه الأرض المُتراحِبة، بِمَسِيسِ الحاجة للهواء الطلق، للنّقاء الرّوحي، للماء والشّمس والحريّة والحياة والبساتين الوارفة والهناءة، بحاجة للأمن والأمان، لِوقفةٍ موضوعيّةٍ مع الذات، للضمائر الحيّة، التي تصحّح لنا اتّجاه البوصلة، كيْلا تزلّ بنا القدم، فتضيع علينا أسرار الحياة ومسرّاتها والأمنيات.. بالفعل نحن اليوم، نحنُّ إلى تلك الجغرافيا، التي كانت رَحِمَ الإنسان الأوّل، وحضنه ومأواه.. فهل منْ عودة إلى هاتيك الأيام الجميلة المُعَافاة، وإلى تلك الأزمنة البيضاء؟ التاريخ يحتجّ على تشويهه وتزييفه، بأنْ يعيد نفسه في مرآة الحاضر، لعلّ أصناف البشر يتعلّمون من هذه الاستعادة، ويتّعظون؟
* * *
وأنت أيّها الكاتب الهُمَام، ما شكواكَ، بِمَ تحتجّ؟! أبالمقالة، أبالتحيّة، أبالكآبة؟ أبالقصيدة والقصة والرواية والطّيف؟ أبالصّمت والضّعف، والمُوارَبة والخوف؟ أبالتخفّي، وعدم الثبات في قلب العاصفة؟ هل لك أيّها الكاتب المُبدع، ألا تخدعَ نفسك ولسانك، وفكرك وقلمك وضميرك، بأنْ تكون صريحاً، كألسنة أجدادك القدامى: ذي الرمّة، وامرىء القيس، والمتنبي، وسواهم كثير؟! أيكون احتجاجُك على سفاسف الحياة، وخزَعْبلاتها، وجبروتها، بلسانٍ رخْو، وكتابة مُطلسَمَة، وقلم مُصْمَت، قد أصابه الصّقيع والبَرَد؟ أم أنّك تحتجّ بفصاحة الموقف، وبلاغة الصّمود، وأنوار الكلمات؟! اخرج أيّها الأديب النَّجيب، الغريب المنفي، إلى النوافذ، إلى الشّرفات، إلى شوارع الحياة، إلى المجتمع، طِرْ كما النّوارس البِيض، كما عصافير الصباح، كما البلابل الشّادِية، فالعالَم بحاجة ماسّة إليك، والمطلوب – راهناً – ألّا تهمل بمِداد قلمك، الأرضَ والحياة والإنسان والوطن والأطفال.. بدونك أيّها الكاتب الأرِيب، تُقفِر الأرض، يشحّ زيت المصباح، تغدو الحياة صقيعاً! أيّها الكاتب المُبدع، أنتَ سيّدٌ في قومك، وضميرٌ يقظٌ لأمّة تريد أفكارك، تبغي كتاباتك التي تفصح عن مواجعها وآلامها والطّعنات.. أتستطيع أيّها الكاتب المُجلّي، أنْ تكسف الطغاة بكلماتك وأغانيَك الصغيرة، في رقعة الورق النّاصع البياض، وأنت إلى جانب شمعة، أو سِراجٍ ضعيف، أو ضوء شحيح؟ خاصّة وأنّ الكهرباء العامّة، تقضّ مضاجع القرّاء والكتّاب والطلّاب والناس بعامّة، بكثرة انقطاعاتها؟! أعرف كغيري أنّك أيّها الكاتب الصّبور، تعيش على الكفاف، «خبزُنا كفافُ يومنا»، وأنت الذي لا تنتظر بشغفٍ أُعطيات (الاستكتاب) المادّي، على ضآلتها.. ولكي تعيش هانئاً، محترم الوجود، لستَ – بكلّ تأكيد – بحاجة إلى الكثير من المال، لأنّك بالعمق مُكتَفٍ بالشّبع الأدبي والمعنوي، محبّ دائماً للبسيط والجميل والرّصين، وأنت القنوع (المَوْجُوع) حدّ الارْتواء والتّماهي والحَسَرات.. زبدة الكلام: «استراحَ مَنْ لا عَقْلَ له».. وهذا كافٍ!
وجيه حسن