الأماكن التي نُقيم فيها لبعض الوقت، تصبح جزءاً من شخصيتنا، حتى حين نُغادرها، وبظنّي أنّ هذا أحد أسباب أنّ بعض التداعيات تنبثق من أبعاد نفسيّة قد لا نعرف إلاّ القليل عنها، والذي استدعى هذا الكمّ الان مشاهدتي لشرطيّ يقف على مفترق شارع مزدحم، وقد أدار ظهره لمهمّته، وكأنّه ليس مسؤولا عنها، فتداعتْ تلك الصور…
في الجزائر عام 1975، حيث كنتُ مُعاراً، كنت أغتنم فرصة أيّة عطلة لأغادر « سيدي عيش»، وذات سفرة إلى العاصمة، وكان لي فيها أخوان لن أنساهما ماحييت، المرحوم محمد الصالح أبو طارق، وسرور العبدالله أمدّ الله في عمره، ركبتُ السيارة مع سرور العبدالله، وأخذتْنا بطريقة ما الذكريات، والحديث عن سوريّة، وعن الاحلام وعن .. وعن..، ووصل سرور إلى شارة قدّر أنّه يستطيع متابعة السير قبل أن يشعل الضوء الأحمر، ولكنّ الضوء الأحمر حضر وهو في منتصف التجاوز، فسمع صفارة الشرطي، ولشرطة السير في المدن والارياف سطوة يُحسَب حسابها، فقال لي نادماً:« ستسحب شهادة السواقة منّي»، ووقف على يمين الشارع، فتقدّم ذلك الشرطيّ غاضبا، وهو يهدر بالجزائريّة، كما يقولون، وصرخ في وجهه ما معناه : ألا تخاف على روحك»، وطلب أوراقه، وأظنّ أنّ ذكاء سرور العبدالله قد سطع في تلك اللحظة، فناوله جواز السفر، وحين عرف الشرطيّ أنّه سوريّ، همد غضبه، وقال ما مفاده: « اذهب لأنّك سوريّ»، ومخالفة كهذه في الجزائر، تلك الأيام، عقوبتها سحب الأوراق لمدّة يقرّرها القانون.
في شوارع العاصمة الجزائريّة، آنذاك أيضا، لا تستطيع أن توقف أيّة سيارة أجرة في عرض الشارع، لتأخذك إلى حيث تريد، بل ثمّة مواقف خاصة بهذه السيارات، وعلى السائق أن يتّجه إليها، ويقف بدوره، والركاب يقفون بالدور، وكلّما غادرت سيارة تقدّمت أخرى فيصعد إليها صاحب الدّور، وصادف أن جاء دوري، فتخطّاني أحد الواقفين، وصعد إلى السيارة، وفي الجزائر تنادي أيّ شخص لا تعرفه :» يا سي محمّد»، أي يا سيد محمد، فيلتفت كلّ مَن يسمع، ظانّا أنه هو المقصود، فناديت السائق قبل أن يمشي:« ياسي محمّد»، فتوقّف عن الإقلاع، والتفت إليّ ، فقلت له :« الدور دوري وليس دوره، فالتفت إلى الراكب، وفتح الباب وقال له بلهجة قاسية:« هيّا انزل» ، فنزل الراكب وصعدت، وبعد أن تحرّك أعدت عليه التأكيد أنّه أخذ دوري، فتابع بثقة عجيبة وقال : والله لو مسؤولا سينزل بمقياس المنفعة الشخصيّة لا فارق أن أكون أنا الراكب أو غيري، فالسائق سيصله حقّه، أمّا في ميزان الحقّ والقانون فهو خرق لذلك القانون.
ما أحوجنا إلى قوانين صارمة، شديدة التطبيق، لإيقاف المتجاوزين، أقول ذلك وفي البال حكاية إعدام من أشعل سيكارة في المترو ذات يوم، فكان عبرة للآخرين.
-في ذلك الزمن لم يكن أحد يجرؤ على مخالفة قوانين السير، وكان من تلك القوانين أنّ سيارة الأجرة التي تحمل راكبا من ولاية إلى أخرى، محظَّر عليها أن تنقل أيّ راكب من تلك الولاية إلى أيّ جهة يريد، بل تعود فارغة، وويل لمن يخالف، ورجال الشرطة على الطرقات بين الولايات يسمونهم ( دَرَك)، وهو اسم كان مستخدما في سوريّة حتى منتصف خمسينيات القرن الماضي، ويُطلَق على رجال الأمن الداخلي الذين يؤدّون وظيفتهم في الأرياف، أمّا وسائل النّقل العامّة فتمرّ حافلات الركاب في ساعات محدّدة يوميّا، كما أنّ للقطارات، وهي وسيلة نقل مهمّة هناك أوقاتها المحدَّدة، وبعدها عليك أن تبحث عن سيارة أجرة للذهاب إلى أيّ مكان تريد الوصول إليه، أو أن تقف على الطريق العام، وترفع إبهامك، مشيرا لأيّ سائق أنّك مسافر على طريقة « الأوتو ستوب».
عبد الكريم النّاعم