في منتصف شهر تشرين الأوّل من عام 1963 كنت في تونس الخضراء، كصحفي أعمل في صحيفة البعث آنذاك، والدّعوة بمناسبة الجلاء عن مدينة «بنزرت» الساحليّة آخر مواقع الاحتلال الفرنسي، وقد حشدت الدولة التونسيّة ما لديها من إمكانيات لإبراز هذا الحدث، فدُعيتْ وسائل إعلام واسعة للتغطية، وجرى عرض عسكريّ كبير، وكنت مأخوذا بأنّي كعروبيّ تقدّمي وحدوي أطأ أرض الجناح الغربيّ لهذه الأمّة التي حلمنا بصيغة من صيغ وحدتها، منذ شبابنا الباكر، لأنّ تجمّع طاقاتها هو الحلّ الوحيد لها للتخلّص من كلّ المعوّقات الداخليّة والخارجيّة، وما كنّا آنذاك نتنازل عن دولة العرب الواحدة الموحّدة.
أسرتْني اللهجة التونسيّة، وكان في ذاكرتي ما قرأته من أنّ اللهجة التونسيّة هي أقرب اللهجات العاميّة إلى الفصحى، وأهل تونس يحبّون المَشارقة، لاسيّما أهل بلاد الشام.
الفنون الشعبيّة التي ملأت الساحات احتفاء كانت مذهلة بالنسبة لي، فهنا أرى رقصا لم اره من قبل، وجوقات من الطبّالين من ذوي البشرة الداكنة، بلباسهم الأبيض والأحمر الشعبيّ المميّز، يتحركّون بحركات متناسقة، وآلة ( الزورنة) موجودة في كلّ الاحتفالات، وهي الالة التي عرفتها منذ طفولتي والتي تُسمّى في سوريّة ( زَمْر النّوَر)،
الذين كنت معهم من سوريّة مخرج سينمائي ( خالد حمادة)، ومصوّر صارت له شهرته الواسعة في التصوير فيما بعد( أحمد أبو سعده)، وكانت العلاقات الرسميّة بين دمشق بعد ثورة الثامن من آذار 1963 علاقات غير وديّة، فموقف سوريّة، والقوى التقدميّة في المنطقة آنذاك، كان لصالح خصم بو رقيبة السياسي صالح بن يوسف، الذي كان خارج تونس، يُضاف لذلك عدد من المواقف السياسيّة العامة.
دعا الرئيس التونسي الراحل الحبيب بو رقيبة، الذي حكم تونس من 1957- 1987 لعقد مؤتمر صحفي، ووُجّهت أسئلة بالفرنسيّة، وبالعربيّة، وكان يجلس إلى جانبه احمد الشقيري، المناضل الفلسطيني، وحاكم الكويت آنذاك، وكان السائل يقدّم اسم بلده، فجأة وقف الأخ خالد حمادة وقال له : «سيادة الرئيس، سؤال من سوريّة»، وقبل أن يُكمل قاطعه الرئيس التّونسي وتحرّك بجسده بحركة فيها شيء من اللامبالاة، وتابع أخونا خالد، بما معناه:» هل تقفون على الحياد من مشاكل المغرب العربي، أم تقومون بدوركم في رصّ الصفوف»، فأجابه مايُفيد أنّهم يقومون بما يمليه عليهم الواجب»، قرّرت أن أردّ بطريقة ما، وارتفعت دقّات قلبي انفعالا من موقف الرئيس التونسي، فانتظرت حتى هدأ روعي، وقلت : «سؤال ياسيادة الرئيس، من سوريّة البعثيّة» فتغيّرت ملامح وجهه، وتابعت: أنتم ترفعون شعار «الاشتراكيّة الدستوريّة»، فبماذا تختلف عن الاشتراكيّة الماركسيّة، وما هي خصائصها»؟، فقال منفعلا: «الاشتراكيّة عندنا تعني أن لايخاف أحد فينا على رقبته، «ومرّر يده مفتوحة على حلقه، وتابع منفعلا بكلام لم يبق منه شيء في الذاكرة،، ونهض بعد ذلك مباشرة،
وبعد زمن، زار تونس مسؤول سوريّ رفيع المستوى، يرأس وفدا إليها، وحين عاد اتصل بي وقال لي : «ماذا فعلتَ مع بو رقيبة أثناء زيارتك لتونس، حتى يسأل عنك تحديداً، وكأنّك لم تتصرّف بما يرضيه»، فأخبرته بما كان وضحك وضحكت،
الآن وانا أتابع ما يجري في تونس من حراك يدلّ على حيويّة هذا الشعب من جهة، وعلى عمق الدّوامة وسرعتها، أتساءل ألم يكن الجوّ الديموقراطي العام كافيا؟ أولم يكن ( الإجراء) الديموقراطيّ مطبَّقا ؟!! فلماذا تكون النتائج على هذه الشاكلة هنا او هناك؟!!
أرجو ألاّ يُفهم من كلامي أنني ضدّ ( الإجراء) الديموقراطي)، بل أنا معه، وأقول أنّ الشرائح الاجتماعيّة في بلداننا ستتعلّم من أخطائها، وأنّ ذلك الاجراء ، على علاّته، هو خير من عدمه…
عبد الكريم النّاعم