حين نتتبّع مواقف بعض الفقهاء ، في تاريخنا، فعلى الأغلب نحمل، بصورة ما، فكرة أنّ الفقيه يُفترَض فيه أن يناصر العدل، وأن يقف إلى جانب المظلومين، استنادا إلى ماقرّ في ذاكرتنا أنّ الدين الاسلامي، في جوهره، يدعو إلى العدل والاحسان، فإذا لم يكن الفقيه معبرا في مواقفه عن ذلك، فهو مجرّد رجل حصّل بعض العلوم الفقهيّة، وليس لديه رادع عن أن يجعل منها سُلعة تُباع على أبواب الحكّام، ومن المؤكّد أنّ تاريخنا العربيّ الاسلامي فيه عدد غير قليل من هؤلاء، وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ مَن يصل إلى مرتبة يُعتمَد فيها في مثل تلك التخريجات المصاغة بما يرضي صاحب السلطة، هو من الذين حقّقوا حضورا فقهيّا، وذاع صيته، فالخاملون لايصلحون لشيء، ولكي لانسوق جميع الفقهاء مساقا واحدا بل يجدر بالذكر أن نشير إلى أنّ ثمّة من أبى أن ينصاع لما ندبَه إليه السلطان، فدفع ثمناً غالياّ، فالإمام أبو حنيفة ، صاحب المذهب الحنفيّ عذّبه الخليفة المنصور، وحبسه ، ودسّ له السمّ وهو في حبسه للتخلّص منه، لأنّه رفض أن يلي القضاء، والامام مالك صاحب المذهب المالكيّ جلَدَه المنصور أيضا، لأنّه روى حديثا نبويّا لم يرُق لذلك السلطان.
بالمقابل نجد أنّ بعضا من الفقهاء قد تخلّوا عن قيم الدين في الإحسان والعدل، وكانت أداة طيّعة، في يد صاحب الصولجان، وعلى سبيل المثال نذكر أنّ الخليفة الأمويّ الوليد بن عبد الملك قد بالغ في عزل نفسه، وفي منع الناس من أن ينادوه بما كان يُنادى به من سبقه من حكّام الأمويّين فقام على المنبر خطيبا وقال : « إنّكم كنتم تُكلّمون مَن كان قبْلي من الخلفاء، بكلام الأكْفاء، وتقولون يامعاوية، ويايزيد، وإنّي أعاهد الله، لايكلّمني أحد بمثل ذلك إلاّ أتلفتُ نفسه، فلعمري إنّ استخفاف الرعيّة براعيها سيدعوها إلى الاستخفاف بطاعته، والاستهانة بمعصيته».
والوليد هذا كان يستفسر باستغراب :«أيمكن للخليفة أن يُحاسَب»؟!! بمعنى أنّه لاحساب عليه من ربّ العباد، ولتأييد هذه الفرية التي لاعلاقة لها بجوهر الإسلام، بادر أخوه يزيد بن عبد الملك، « فأتى له بأربعين شيخاً فشهدوا له ماعلى الخليفة من حساب ولا عذاب»، وهكذا أباح هؤلاء الشيوخ لأنفسهم أن يتكلّموا نيابة عن ربّ العزّة!! بأنه مامن حساب ولا عقاب على الخليفة، أمّا الثمن الذي قبضوه فالله أعلم به، ولا شكّ أن هذا يضعهم في مرتبة شهود الزور.
أقدّم ماقدّمت وفي ذهني خطورة مايفعله رجالات الدين المأجورون بالمال، وبزعم أنّهم ممثلو الشريعة المحمديّة، والقيّمون عليها، ولقد سمعنا العجب العجاب من الذين افتوا بالحريق العربي، من عراعير وغير عراعير.
عبد الكريم الناعم