تحية الصباح…من الذّاكرة 55

عام 1955 كنت معلّماً في « منبج»، قبل أن تتّسع كغيرها من المدن والبلدات، وكانت تُحيط بها أشجار مثمرة تُسقى بينابيع صافية، .. في ذلك العام أُصبتُ بإسهال شديد، ولم تُجدِ كلّ الأدوية التي أعطاها لي صديقي الصيدلاني، وترافق ذلك مع آلام مغص شديدة، حين شكوتُها للصيدلاني ركّب لي شرابا آخذ جرعة منه حين اشتداد الألم، وتفاقم الأمر حتى تساقط شعر جسدي، وكرهت البطاطا واللبن غذائي الوحيد مع الشاي الثقيل، ولم أعد أذكر مَن الذي أشار عليّ أن أسافر إلى حلب، وأقصد مقهى في حي « باب الحديد»، فلدى صاحبه دواء عربيّ سيحسم هذا الأمر، وصلتُ إلى الحيّ المذكور، وسألتُ عن المقهى، فدُلِلت عليه، ودخلتُ المقهى فكان أوّل ما رأيت رجلاً ضخم الجثّة ضخامة لافتة، حتى أنّه فُصّل له كرسيّ خشبيّ مقشَّش، وله مسندان، بحجم ذلك الجسد، وكانت تلك سمة الكراسي الغالبة في ذلك الزمن، وكان يرتدي قمبازاً، ويضع على رأسه طربوشا، لُفَّ بعض محيطه بالأغباني، تقدّمتُ منه، وشرحتُ له ما أنا فيه، ففتح جرّاراً في طاولة منصوبة أمامه، وأخرج مسحوقاً زيتيّ اللّون، وقال لي:» تضع بقدر ما تسع البرشانة في ورقة سيكارة، وتبتلعها بالماء، وأيّ تناول ( تتجشّأ) بعده توقف الدواء، سألته :» كم تُريد»؟ فقال :» لاشيء هذه للّه»، أخذت الدواء وأنا في حالة يُرثى لها من الوهن، وتناولت أوّل دفعة ، وشعرتُ بعد تناولها بمدّة ليست طويلة أنّي تجشّأت، فتساءلت هل يُعقل أنّ الدواء قد فعل مفعوله؟!!، كان الوقت ضحى، ولم يأت وقت الظهر حتى تغيّرت أحوال جسدي، فقد توقّف ما كنتُ أعاني منه، وشعرتُ برغبة في الطعام، ولكنّني حذرا لم أتناول إلاّ بضع لُقيمات، ولم يأت المساء حتى كنتُ شخصا آخر، يا إلهي، ما هذا الدواء السحريّ؟!!
ذكرتُ ما ذكرتُ لأصل إلى غاية أخرى وهي أنّ في طبّنا الشعبي ( بعض) ما يمكن أن نستفيد منه، ومعظمه قائم على تركيبات نباتيّة، وهنا لابد من الإشارة إلى أنّ التوجّه إلى التداوي بالأعشاب قد بدأ ينال اهتمامات أكاديميّة في العالم منذ ثمانينيات القرن العشرين، وقد شاهدت صيدليّات في « المانيا الشرقيّة» تعطي وصفات عشبيّة بحسب وصفة الطبيب، في الصين وهي بلد غنيّ بالعشّابين انتبهوا لهذه الناحية فقاموا بتجارب مخبريّة، وما أدري إلى أين وصلوا، ولا أشكّ في أنّهم قد تقدّموا في هذا المجال، هذا الطبّ، أي اعتماد الأعشاب بعد أن دمّرت الأدوية الكيماويّة ما دمّرت في أجسادنا، يسمّيه البعض « الطبّ البديل»، وهو لا يمكن أن يكون بديلا، ولذا سمّاه بعض آخر « الطبّ المكمِّل» وهي تسمية أكثر دقّة، تُرى هل فكّرت جامعاتنا، ووزارة الصحّة في بلدنا أن تجري شيئا من تلك التجارب على ما توارثناه، علماً أن عدد العشّابين في سوريّة موجود في كلّ المدن، فهل حاولنا إجراء تجارب نستخلص منها ما يمكن أن يكون فتْحا في مناهج تعاملنا؟!! الذي يجري الآن أنّ البعض يتناول دواء عشبيّا وُصف له فيُشفى، أو يتحسّن، بينما يأخذه آخر فيقول لك: «مثل قلّته»،
نبات « القبّار» الذي يكثر في المناطق الشرقيّة من مدينة حمص صار له مواسمه في الجني، والبيع، وربّما شكّل رافدا ماليّاً، حيث يُباع لتجّار معروفين، وأولئك حسبما نُقل كانوا يبيعونه لتجّار أتراك للاستفادة منه في إنتاج أدوية لا نعلم شيئا عنها.
إنّ تحويل مخابرنا الجامعيّة إلى ما يشبه مراكز البحوث، مستفيدين ممّا ورثناه من أجدادنا ربّما يفتح الباب للوصول إلى نتائج مهمّة في هذا المجال.
لعل من يقول شبه هازئ: «أنظرْ بماذا يُطالب في خضمّ فوضى الأسعار، وغياب التيار الكهربائي، وانتشار الغلاء الكاوي»؟!! وأنا لا ألوم مَن يقول ذلك، ولكنّني أشير إلى أنّ النهوض، كي يكون متكاملا، وسليما، يُفترَض فيه أن يشمل جميع مناحي الحياة….
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار