في الكتابة عمّن احتلّوا مكانة خاصّة في نفوسنا، قد نحتار من أين نبدأ، كالوقوف أمام الدّائرة للبدء بإنشاء قطْر فيها، مع أنّ جميع نقاطها تصلح لذلك، فقد تحيّرك هذه السعة في الاختيار،
لا أعرف متى بدأت علاقتنا، ولكنّ عمرها لا يقلّ عن أربعين عاماً، فقد كان معتصم دالاتي أبو نوّار ما يكاد يترك نشاطاً فنيّا، أو أدبيّا، أو أيّا من النشاطات المشابهة دون أن يحضره، وكما هي العادة، كجزء من شخصيّته المَرِحة الودودة، لابدّ له من إطلاق تعليقات محمولة على أجنحة الظَّرْف، سأتجوّل في أنحاء هذه الحديقة من الذّكريات، والمعلومات.
بدأ حياته الفنيّة رسّاماً تشكيليّا، وكان بيته معرضا لعدد من اللوحات ذات القيمة، لفنّانين تشكيليّين مشهورين، وقد باع واحدة منها على الأقلّ، ليُسدّد آجار ” القبو” الذي يسكنه، سألتُه مرّة، وقد لاحظت أنّه بدأ برسم لوحة، وبقيت سنوات كما هي، سألتُه:” لماذا لم تتابع هوايتك في الرّسم”؟ فقال:” أنا اكتشفتُ أنّني لا أستطيع أن أكون فنّاناً تشكيليّاً متميّزاً، ولا أرضى لنفسي أن أكون عاديّا، فاخترتُ الإقلاع عن ذلك.
كان بيتُ المرحوم أبو نوّار، حيث يسكن، ملتقى للأصدقاء من شعراء وأدباء ومسرحيّين، وعاشقي الثقافة، وهذا ما هيّأه لأن يكون ندوة رفيعة المستوى، وتزيّن هذه الجلسة ” قَفْشاته” الجميلة، والذكيّة،
كان هو وعدد من أصدقائه متّفقين على يوم في الأسبوع، يلتقون عنده، شريطة أن تكون مادّة الطعام ” الحُمّص” وبعض لوازمه، وما تقتضيه الجلسة من شراب، ويختار صاحب البيت بالاتّفاق معهم أحد أساطين الطرب القدامى، فيسمعون سماع المتذوّق المُنصت، وكانت لديه مكتبة موسيقيّة منتقاة، تقاعدَ المرحوم أبو نوّار من وظيفته، وكان من عادته أن يحلق ذقنه يوميّا، ويخرج للتّنزّه فيمشي مسافات طويلة، وهذا دأبه قبلَ الظّهر وبعد الظّهر، ورغم أنّه لم يكن لديه عمل، فقد خصّص يوم الجمعة لنفسه واعتبره يوم عطلة، وكنت إذا سألته عن أمر بواسطة الهاتف في هذا اليوم، يجيبني :” لَهْ..يا أبو إياد، ألا تعلم أنّ هذا يوم عطلتي الأسبوعيّة، كان يكتب الزّاوية الصحفيّة ويشحنها بأنفاس طرافته، فتميّز بذلك، وكتب زمناً مديداً في صحيفة العروبة الحمصيّة، كما كتب في بعض الصحف المركزيّة، كان من عشاق الشعر، وممّن يجيدون الاستماع إليه وتذوّقه، وإلقاءه، وكتب مقطوعات صغيرة، تدخل في عوالم الشعر، ذات لقطات حميمة ودافئة، ولم يدّع في يوم ما إنّه شاعر، وقد عرض عليه الشاعر الحمصي المعروف عبد القادر الحصني أن يجمع كتاباته وهو يتعهّد بأن يجد مَن ينشرها فاعتذر، كان له ركن ما يكاد يغيّره في صدر حديقة نقابة الفنّانين، ويلتفّ حوله أصدقاؤه، وبعد سفره إلى استراليا، ذهبتُ لتلك الحديقة الجميلة، الأنيقة، وأوّل ما وقعت عيناي على مكانه، فلم أجده، فكتبتُ هذه الوَمْضَة:
.. وَخلا مكانُك منكَ في
صَدر الحديقهْ
وَظَلَلْتَ في قلبي
تُعيد إليهِ
من سَفَرٍ طَريقَهْ
وقد نُشرت في إحدى مجموعاتي، ” آفاق -2016
حين اكتُشف أنّه مريض، وكنّا على اتصال شبه يوميّ، كانت معنويّاته عالية، أخذ جرعاته وهو مبتسم، وكما عبّر عن نفسه، أنّ الخوف لم يداخله، وأنّه غير عابئ بهذا المرض، وحين استقرّ في مشفى الهلال الأحمر ظللتُ على اتصالي به عبر الموبايل، واعتذرتُ من أنّ وضعي الصحّي لا يساعدني على الوصول إليه، فناشدني ألاّ أجئ، وقد لاحظت في أيامه الأخيرة أنّ في لسانه ثقلا في الكلام، رحم الله أبا نوّار، وسأختم هذه الزاوية بـ “قَفْشة ” من قفشاته، فقد كان يحضر أحد مهرجانات رابطة الخريجين، وجاء مسؤول بمنصب وزير وجلس، وكان أمامه، وسأل أبو نوّار عن اسمه، فذكروه، ويبدو أنّ أذن الوزير قد التقطت شيئا من الحديث فالتفت مبتسماً فبادره أبو نوّار” سيادة الوزير لا تؤاخذني، والله لو كان أيّ وزير لبناني كنّا عرفناه”
سلاما معتصم دالاتي.
عبد الكريم النّاعم