في المرّة الثانية التي دُعيت فيها إلى ليبيا عام 1989 كان رفيقي في الدّعوة الشاعر المرحوم الصديق مصطفى خضر، وسافرنا معا إلى دمشق، وكان الفصل صيفاً، وصعدنا أدراجا، وتنقّلنا من مكان إلى آخر لتهيئة أوراق السفر، وقال لي المرحوم يومها:” لولاك لعدلتُ عن هذا السفر”، فقد كان الجري مُنهِكاً للوصول إلى بطاقة الطائرة، سأكتفي بوضع علامات عمّا بقي من تلك الرحلة في الذاكرة، وهي تتمّم ما كتبته في زاوية سابقة، -استضافونا في “القرية الأندلسيّة”، وهي قرية قريبة من البحر، بُنيت على الطراز الأندلسي، وكنت والمرحوم أبا ميلاد ننام في غرفة واحدة، ومنذ اليوم الأوّل تبيّن لرفيق الرحلة أنّني لم أعد أسهر طويلا كما كنت أفعل، فكانت خيبة أمل بالنسبة له، فقد أقلعت عن السهر وصرت أنام باكراً، وهو بطبعه، كان يحبّ السهر، والمشي في الشوارع، ولكنّه رمّم هذه الثغرة فقد تعرّف إلى بعض الساهرين، بيد أنّنا فوجئنا في هذه القرية أنّ الماء لا يصل إليها إلاّ لمدّة ساعتين يوميّاً، وكان علينا أن نملأ عبوات الماء الفارغة، ونحتفظ بها لما لها من لزوم، وحين سألنا عن ذلك قيل إنّ هذا قرار ” اللجنة الشعبيّة” لقرية قريبة منها، وهي وحدها التي تستطيع تبديل هذا القرار، ولك أن تتصوّر حالة قرية أندلسيّة لا تصلها المياه إلاّ لمدّة ساعتين!! -في مركز ثقافيّ في العاصمة طرابلس، بُني بأبّهة ظاهرة، .. حين دخلناه، وتجوّلت في أنحائه، ومُنتفعاتُه مُزيّنة بالرّخام الإيطالي الحبْريّ اللون، اقتربت من المغسلة فرأيت العنكبوت قد بنى بيته في أسفلها، وبالقرب منه كومة من القمامة، وحين سألت أحد اللّيبيّين عن ذلك قال مبتسما:” قد يكون المستخدَم لهذه الغاية من قبيلة أكبر من قبيلة مدير المركز، ولذا فهو يُراعيه تجنّباً للشرّ”. -في حوار جانبيّ لمّح صديقي الليبيّ إلى أنّ ثمّة تحرّكاُ لجماعة الاخوان المسلمين، وقد قابله السيد العقيد بما ينبغي أن يُواجَه به. -في بعض شوارع المدن الليبيّة شاهدتُ نساء يقمن بتنظيف الشوارع بدلا من الرجال، وكلّهنّ أفريقيّات، هكذا قدّرت، -لقد جهد عهد القذافي من أجل أن يخلق نهضة عمرانيّة، بشريّة في ليبيا، بيد أنّ ثمّة عادات قد تحول دون المُراد، ففي الليل كنّا نشاهد الأبنية البرجيّة، غير أنّ النوافذ التي تُضاء فيها قليلة، وحين سألت عن ذلك قيل لي إنّ الليبيّ يريد بيتا لا يسكنه أحد غيره، علماً أنّ تملّك شقّة في تلك الأبنية ما كان يكلّف أكثر من عشرين بالمئة من الراتب، ويحدث غالباً، أنّ الدولة بعد خمسة عشرة سنة تُعفيه ممّا بقي في ذمّته، -إذا بُنيت مدرسة في هذا الحيّ، ولم يكن يفصلها عن الحيّ المجاور إلاّ الشارع، فإنّ أهل ذلك الشارع يطالبون ببناء مدرسة في حيّهم،!! وهذا مؤشّر على تحكّم العقليّة القبَليّة في أدنى وعيها، -حيث كنّا في القرية الاندلسيّة كانت تصلنا صحيفة يوميّة مؤلّفة من أربع صفحات، تُقرأ في دقيقتين، وقد لفت انتباهي صفحة كاملة للأحكام الصادرة عن الجهات القضائيّة، فأردت معرفة أنواع الجريمة في ذلك المجتمع، فقرأت الأحكام كلّها فوجدت عقوبة صدرت بسبب الضّرب، أمّا الباقي فكلّه جرائم مخدّرات، فاستغربت، وسألت عن ذلك فقيل لي إنّ ليبيا عبر التاريخ كانت ممرّا للتهريب باتجاه أفريقيا، وحين مُنع بيع الخمر، عمد البعض إلى تصنيع خمور رديئة بعضها يؤدّي إلى الوفاة، فاستعاضوا بأنواع المخدّرات، وبعد أن كانت المخدّرات تمرّ مروراً صار لها مَن يتعاطاها، ومن كان يريد شرب شيئ من الخمور فعليه إما أن يسافر إلى تونس، أو إلى مالطة، -رغم كلّ ما ذكرناه، فقد كان المواطن الليبي يعيش حياة كريمة من حيث التعليم والسكن والصحّة، وهذا يستتبعه الكثير الكثير من لوازم العيش المؤمَّنة، وعلى رأسها الأمن، ووحدة البلاد، قال الامام عليّ كرم الله وجهه :” نعمتان مكفورتان الأمن، والصحّة”، أي نعمتان مغطّاتان، لا نحسّ بقيمتهما إلاّ حين الفقدان…
عبد الكريم النّاعم