بدهي المضي قولاً : إن الإنسان كائن اجتماعي ، و كائن نوعي ، فالأمر محقق واقعاً عبر صيرورة الحياة الإنسانية ، التي تجسدها الحضارة ، والتي هي ثمرة الجهد البشري وفق ثنائية التأثر و التأثير التي مقامها هذا التفاعل البنيوي لكينونة الإنسان في تماهيه مع ذاته يقرأ كينونته الوجودية والعقلية ، و مع غيره أيضاً ، ومع الحياة في شمولية صعدها و جوانبها . وتشير الدراسات التربوية و النفسية إلى أن الطفل يولد طاقة بقوة الخلق ومع تدرج الأمور ، و اكتساب المهارات و سعة الخبرات ، وغنى التكيف يولد ثانية بالفعل فيتحول من متأثر منفعل إلى فاعل ، و من إجرائي الحضور إلى نوعي الأداء على قدر صقله ميولاً و اتجاهات ،و ثراء معارف و فعل تواصل إنه الإنسان الحاضر جمالية وجود في فضاء رحب الآفاق نضارة سعي حثيث في معارفه ما اتسع له العمر الزماني ، و تناهبت أمامه عزائم تحاكي قدراته وتصبو نحو غاياته و الساميات ذراً من أعمال ترسم و شم بصمته على جبين الأداء المميز و الإنتاج المبهر و الحضور المبدع. و الفعل الأبقى في ذاكرة الزمان و مراد قطاف الراقيات عقولاً في دلالة الإنسان الأسلوب و الإنجاز وريادة معنى قيمة و قامة في معطى كل عمل جميل و تأسيس أبقى عبر وجود مدني في التفاعل الراقي نباهة فعل خير و تواصل بناء و عطاء متجدد و يتجاوز الجغرافيا مكاناً لكنه يسكن التاريخ إنجازا و قيمة . وفي علم الاجتماع هذا ابن خلدون يفسح في مقدمته فصلاً ( الاجتماع الإنساني ضروري ) إن الاجتماع الإنساني ضروري و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم : الإنسان مدني بالطبع ، لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحه ، وهو معنى العمران … هذا العمران الحضارة نقرؤها في الإنسان جبلة و طبعاً في كل سهل و واد و جبل و حيثيات كل تضاريس تفيض خير بناء و انعتاق من كل قيد منغلق و سعادة كل نبل فياض ولعل القرية الكونية في متسع المجتمع الالكتروني و عوالم الوسائط الآن تعطي مثالاً لثنائية الإنسان و الحياة بعيداً عن العولمة المسيسة بل من منظور إنساني بحت. لكن قوى الشر و الاستعمار و كل أشكال الإجرام و الاستبداد و مافيات الشركات العالمية الكبرى التابعة للهيئات الدولية الاستعمارية المسيسة سعيها الحثيث إفقار الشعوب الحرة و سلب مواردها عبر حروب متنوعة و أساليب إجرامية من مخططات و مشاريع و غير ذلك غير مكترثة بالإنسان سلالة ولا بالإنسانية قيمة. ولا بالقانون الدولي ولا بسمو مكانة سيادة الدول و شعوبها و هاهي الهيمنة الأمريكية في عنجهيتها تمضي في غيها عبر الحصار والعقوبات التي تفرضها على الشعوب الحرة المكافحة في سبيل حريتها. فيكون الثبات رفضاً لمستعمر يلبس ثوب الثعلب ولا يؤتمن جانبه فتاريخه تآمر و دمار و استلاب و حروب و إجرام و هكذا هو الاستعمار عبر التاريخ و الحاضر فمخالبه ينشبها بأساليب مختلفة ولعلنا نقرأ أن الاستعمار البريطاني كان يرسل أطباء إلى القارة السمراء ( إفريقيا ) وكان يعلمهم أن يتواصلوا مع الأهليين هناك لكي يتعرفوا عادات و تقاليد أولئك السكان و يلاحظوا أمراضهم ثم يعمدوا بعد ذلك لاجتذابهم و يقوم أولئك الأطباء الاستخباراتيون بدور مزدوج طبي و استخباراتي ضمن صيغ الاستعمار الكولونيالي العسكري و حتى الدواء لا يكون جدي المصداقية في التداوي و العلاج إنه استثمار استعماري حتى في الألم و إنسانية الإنسان علماً أن الطب مهنة جلالها في دلالاتها حكمة \ حكيم ( فتاريخ الطب من فجر طلوعه نبوغ التضحية و اتقاد الذهن و مواجهة الغامض العدائي المجهول و بالتالي اجتراح المستحيل بغية الرجاء في التمكين للمصير صحة و عافية ما قدر للمرء من عمر و انقضاء سنين و بالتالي أيضاً التأثير في صحة أبدان و سلامة في عقول ومن ثم التغلب على الموت كونه موضوعاً أساسياً للقلق. ولقد اجتهد علم تاريخ الطب ضمن معطى الأسطورة اليونانية آن (سيزيف) أول طبيب عوقب بقسوة عبر قصة الصخرة التي ما أن يدفع بها من قمة الجبل حتى تسقط إلى سحيق الوادي و هكذا مراراً و تكراراً دواليك فحكم عليه بالجحيم . و ثمة عودة إلى الإنسان و حرصه على دوره في الحياة وجوداً و واقعاً معيشاً و رسالة ليكون في الوعي الجمعي إنسان الحياة عبر عاضد إنساني ينتفي منه الضياع قحطاً و يشرق فيه العطاء ربيعاً ضمن ذهنية خلاقة مداها الإنسان (قيمة كبرى ) . إن تاريخ البشرية و حاضرها من دون الحروب و المؤامرات و الفظائع بأنواعها التي تثقل واقع الحياة و إنسانها يثبتان إن إرادة المواجهة و الكفاح هي إرادة تضحية في ثنائية البناء والتحرير. إن المدنية التي ينشدها الفلاسفة و الحكماء والعقلاء في كل ميدان ضمن دعوة إلى الحياة إنما تلاقي جرائم المستعمرين بأنواعهم وخططهم ,وما الطب الإمبريالي الذي حفر و يحفر أخاديده في تفاصيل المجتمعات المحلية حيث الجدري و طب المستعمرات البريطانية في الهند في القرن التاسع عشر و الكوليرا في الفلبين و جائحة الأنفلونزا في روديسيا الجنوبية و واقع الحرب الجرثومية في الوقت الراهن وتجارة الإعلان و سباق الشركات و تجار الحروب و محترفو الاستثمار في الأزمات وسياسات الحصار و العقوبات إلا امتداد في التمادي الإجرامي بحق الإنسان والحياة ومعنى دلالة : ( الإنسان مدني بالطبع ) بعيدا عن شريعة الغاب .
نزار بدور