إنّ ما يُكتَب اليوم، وما يُقال، على امتداد مساحة الوطن العربي، بعقول وأقلام وأيدي وألسنة كتّاب وأدباء ومفكّرين وسياسيين ومحللين واقتصاديين ومتحاورين، يملأ بحراً بالحبر، لكنّ كثيرَه يتهادَى، ويكرّر بعضه بعضاً، اللهمّ إلّا إذا كانت هذه الكتابات والحوارات مُجرّد إعادة إنتاج لغويّة، أو مُجرّد اجترار كلامي، ليس إلّا! فالشّفافية لدى كثرة كثيرة منهم ماؤُها شحيحٌ، ويشحّ أكثر كلّما اقتربَتْ من أرْوقة السياسة وكواليسها ، لأنّ الأعمّ الأغلب من العرب يُملَى عليهم، ولا يقرّرون بأنفسهم، لأنّه محظورٌ عليهم أن يقرّروا، أو أنْ يخططوا، فهناك مَنْ يقوم بكلّ ذلك نيابة عنهم، لأنّ العربيّ منذ عقود زمنية عديدة، محكوم عليه بالصَّمت والإذْعان، وهو يرى ثروات أرضه وشعبه ينهبها المستعمر الغربيّ، هكذا في وضح النّهار، بكلّ عنجهيّة وصفاقة وغطرسة! وأكثر مَنْ يثيرون الإشفاق، أولئك اليقينيّون العرب، فهم يجزمون بل ويُفْتُون لمجرّد أنّهم يصدّقون السَّراب المخادع، الآتي من هناك منْ جهة الغرب، فإذا مدّوا أيديَهم لالتقاطه، عادت إلى صدورهم أكثرَ جفافاً وإفلاساً! ولدينا – ونحن في عام – 2020مثالٌ صارخٌ، قريب المُتناوَل، لقياس منسوب الشّفافية لدى كثيرين من العرب، هو هذه الحلقة المتجدّدة الدّامية من الصّراع “العربي – الصهيوني”، وقد كُتِب عنها وفيها عددٌ ضخمٌ من الكتب والملفّات والدراسات والبحوث والأطروحات والمؤلفات، لكنّ الحصائل كانت “فالصو”، أي كَمَنْ يبحث عن إبرة في بيدرٍ من القشّ.. فالمتعمّقون بدراسة الشّأن الصهيوني قليلون . إنّنا في بَطَرِنا الثقافي، الذي نعيشه اليوم، بل ونتعايش معه، بإرادتنا أو غَصْباً عنّا، نشبه إلى حدّ بعيد من بعض النّواحي والمواقف، “طبيب” القرية في الأربعينيّات العربية، فقد كان هذا “الطبيب” الشّعبي، يختنُ الأولاد، يخلعُ الأضراس بالكمَّاشَة من دون “بنج”، يعالجُ السّرطان بالكمّادات، والكوليرا بأقراص الأسبرين، والنّزيف بالمزيدِ منه! السؤال المُرّ بهذا السّياق مُفَادُه: أليس ما يُقدَّم اليوم من وصفات جاهزة لصراعٍ وجوديّ، يهدّد أمّة بكاملها بالإبادة والفناء أشبه ما يكون بقرص إسبرين، يُعطَى لرجلٍ يحتضر، وهو يقتربُ من قبره والرَّحيل؟ بعض المفاهيم والأفكار والمعلومات والتحليلات هي في واقع الحال “باتريوت”، أو مضادّات شديدة في صميم الصِّراع، لكنّنا قلّما نلتفت إلى هذا الجانب المهمّ، الذي يبدو لبعض الناس، وكأنّه أشبه بالفانتازيا الحالمة، أو البَطَر الثقافي! سؤال مُوَالٍ: أليس ادّعاء المعرفة والثقافة، وابتكار الأفكار الهامشية، كبديل من الحصول عليها بشكل جدّي مُعمَّق، هي الطريق المُعبَّد الذي تتدفّق منه آليات الأعداء، بمعزلٍ عن النيّات والرّغبات؟!.. اليوم، فإنَّ ما بين “زَرْقاء اليمامة”: (اسمها الحقيقي “حَذَامِ”، امرأة في الجاهلية من العرب اليمانيّة، يُضرَب بها المَثل في حِدّةِ البصر، وصِدق الخبر، وكانت تُلقَب بِزَرْقاء اليمامة، وفيها قِيل: أبصرُ منْ زَرْقاء اليمامة)، والرّادار، أو طائرة الاستطلاع “الأواكس” مسافة لا تُقاس بالكيلومترات والأميال، بل تُقاس بالقرون، ونحن حتى الآن ضحايا التفاوت الكارثي بين أشكال الظواهر ومضامينها، فالحروب تبدّلت أشكالها جذرياً، على الأقلّ من حيث التّخطيط والتقنيّات والأدوات، كما أنّ الصّراع الدّامي الشّرس، دخل مراحل لم تكن واردة أو معروفة من قبل.. وبرأي كثرة من أرباب الوعي والفكر والتّنوير واستشراف المستقبل، فإنّ “المدفعيّة الثقافيّة” قد تكون هي الأهمّ، في أيِّ صراع وجوديّ، الآن، أو في القابل من الأيام، بين العرب وأعدائهم.. باختصار: لقد ولّى زمن “زَرْقاء اليمامة”، وعمِيَتْ عينَاها، وانحسرَ بَصَرُها، وبقيت الرّادارات المتطوّرة، وبقيت معها الفناجين التي تظلّلها حُثالات القهوة.. ولن نضع أنفسنا وعقولنا بعد الآن في بؤرة الاستغراب، إذا ما عَرَفنا عن وعي واستنارة، أنّ بحراً من الحبر لا يُضمِّد جرحاً في خاصرة، مادام التّكرار، ومهنة ملء الفراغات العربية، في صفحة “الكلمات المتقاطعة”، أو حسب إملاءات العدوّ، هما الجناحَين المَهِيضَين اللذين يحلّق بهما إنساننا العربي، فوق سواد الواقع المرير، وبياض الورق المائل إلى لون الليل..
وجيه حسن