يتساءل المرء بينه وبين نفسه، خاصّة إذا كان واحداً من الذين يعشقون الدّخان، أوما يسمّى بالتّنباك، أو التّبغ، ويتلذذون في شربه وبَلْعِه وتعاطيه: لماذا يُتحفنا كاتب هذه “التحيّة” بهذا الكلام ، الذي يعكّر المزاج منذ الصباح، فكلامُهُ لا يقدّم ولا يؤخّر، بلْ هو غير ذي نفعٍ وإثمار، ونحنُ عن سماع كلماته: “أذنٌ منْ طِين، أخرى منْ عَجِين”! ثم لماذا هذا التفلسف الفارغ، وهذه المُزايدة الكلاميّة السّخيفة، في شأنٍ حياتيٍّ شخصيٍّ، لا نستطيع فَكَاكَاً منه، لأنَّ بيننا وبينه صُحبة طويلة، وصداقة متجذّرة طال أمدُها، وعِشق خاص لا يمكن أن تنفصل لُحْمَتُه عنْ سُدَاه؟ يقول كاتب “التحيّة”: وكأنّي بِشاربِي الدّخان العجمي والمُعَسّل، الذين يتعاطون التّنباك والتّبغ والدّخان، في بيوتهم، في المقاهي والمطاعم والأندية والطرقات، وفي كلّ المطارح، يهبّون بوجهي هبّةَ رجلٍ واحد، قائلين بصوتٍ مُتّحد: ” مَحَضْتَنِي النُّصْحَ لَكنْ لَسْتُ أسمَعُهُ إنَّ المُحِبَّ عَنِ العُذّالِ في صَمَمِ”.. الحقَّ أقول: لو كنتُ أدخّنُ، لذكرتُ لكم وأمامكم مضارّ التّدخين وعواقبه على الصحّة الخاصّة، وما يعود به على صاحبه، وعلى شاربيه من الآلام والأسقام والخسارة، وخبث الرّائحة وقبحها، لكنّ أهلَه ومُتعاطِيه يعرفون جميعَ ذلك أكثرَ ممّا أعرف، “وحبُّكَ الشَّيءَ يَعْمِي ويصِمّ”، كما يقول شاعر.. نعم قارئي العزيز، أيّها الرّجل/ المرأة، الذي لا تسقط السّيجارة المُعْتَقلَة منْ بين يديه أو شفتيه، ولا يتخلّى عن تعاطي النّرجيلة ولو على جثّته.. ينبسُ الكاتب: أقول بملء الصّدق والصّراحة، وليكن من بعد ذلك الطوفان: أمّا التّنباك، وهو التّبغ فضررُهُ كبير، والمصيبة به أعظم، ولا يبعد أن يكون من الخبائث والمُنكَرات التي نُهِيْنَا عنها، ولو لم يكن فيه من الشرّ والأذى، إلّا ما يشهد به الأطبّاء، لكان كافياً في تجنّبه، وتَرْكه، والابتعاد عنه، وعن عواقبه الوخيمة، على الشخص المُدخّن أوّلاً، على عائلته وأولاده تالياً، على الصحّة العامّة ثالثاً! وقد أفرطتْ جماعات من الأطبّاء والدارسين في حُكمِه، وحارَبُوه بكلِّ وسيلة وضَرَاوة، كما أنّ آخرين قد بالغوا في استعماله إلى حدٍّ بعيد، (وهو شجرة خبيثة دخلت بلاد العرب حوالى سنة 1012 هجري، وانتشر في سائر البلاد، انتشار النّار في الهشيم)، واستعمله الخاصّة والعامّة، الغنيّ والفقير، الكبير والصّغير.. فمن الناس مَنْ يأخذه في لفائف السّيجارة، ومنهم مَنْ يشعله في المَشْرَعَة، ومنهم مَنْ يشربه بوساطة المَشْرَب، لأنّ المَشْرَب – حسب زعمهم وفلسفتهم – يُصَفِّي الدّخان من مادّة “النّيكوتين” الضارّة، ومنهم مَنْ يشربه سيجارة، أو بالنّارجيلة، أو “الشِّيْشَة” على لهجات عدد من دولنا العربية، وفي بلاد اليمن يُسمّون النّارجيلة بـ “المَدَاعَة”، حتى أضحت لديهم ولدى غيرهم من أمّة العرب زينة المجالس، وعروس البيوت، واستصحبها المُدخّنون/ المدخّنات في حَضَرِهِم وسَفَرِهِم، وأنشدوا لها وفيها القصائد، والمقطوعات الشّعرية، كقول أحدهم: “مُدَامَتِي نَدِيمَتِي أنِيْسَتِي في وَحْدَتِي” “تَقُولُ في قَرْقارِهَا يا صَاحِ خُذْنِي بِالَّتِي”.. وأخبثُ من ذا وذاك، مَنْ يمضغ التّنباك، ويجمعه مطحُوناً مع موادّ أخرى، ثمّ يضعه بين شفتيه وأسنانه، ويُسمَّى ذلك بـ “الشّمَّة”، فيبصق مُتعاطِيها حيثُ كان، وحيثما حلّ، بصاقاً تعافه النفوس والآذان والعيون، ويتقذَّرُ به المكان، وربّما لفَظَها منْ فمه كَسَلْحةِ الدّيك “التغوّط” في أنظف مكان، “وللنّاس فيما يعشقون مَذاهبُ”! وبعض النّاس يستنشق التّنباك استِنْشَاقاً، ذلك بعد طحنِهِ، ويسمّى في بعض بلاد العرب بـ “البردقان”، كاليمن وسواه، يصبّه الشّخص في أنفِه صَبّاً، يفسد به دماغه، ويجني به على سمعه وبصره، ثمّ لا ينفكُّ عاطِسَاً، بيده، وفي منديله، أو على الأرض، قرب الجالسين، أو على أعْيُنِ المارّة.. الحقَّ: لو اقتصر الناس على ما لا بدّ منه للحياة، لاستراحوا من التّكاليف والأعباء والنّفقات الشاقّة، ولَمَا عَرَّضوا أنفسهم لشيء من هذه الشّرور والأذيات، وأزيد فأقول: كلُّ مُضرٍّ بصحّة الإنسان في بدنه، أو عقله، أو ماله، فهو حرام حتّى ينقطع النّفَس، كما يُقال، والبِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأنّ إليه القلب، والشرّ ما حاكَ في النّفس، وتردّد في الصّدر، وإنْ أفْتَاكَ المُفْتُون.. وليعذرني المدخّنون طُرّاً، إذا كنت قد أثقلت عليهم في هذه “التحيّة الصباحيّة” المُزْعجة، بينما دخانُ سجائرهم، وغَيْمُ نراجيلهم، لايزالان يتراقصان في فضاء الغرفة أو المكان، يزعجان كثرة كثيرة من الحاضرين الذين لا يدخّنون…أكتفي بهذا القَدْر من “التحيّة والسَّلام..
وجيه حسن