تحية الصباح .. من الذّاكرة 60

 أواخر صيف 1963 تقريبا، طُلب منّي أن أترك حمص، وألتحق بصحيفة “البعث” في دمشق، فوافقتُ، تلبية أوّلاً، وربّما أغراني العمل الصحفيّ آنذاك، بما له من تماس مباشر مع الأدب وما يُنشَر، وكنتُ في الجريدة مسؤولا عمّا يمكن تسميته صفحة ثقافيّة، كما كان عليّ أن أكتب زاوية يوميّة تُنشر في الصفحة الأخيرة، كنت أوقّعها باسمي الصريح يوماً، وباسم ” ابن الريف ” يوماً آخر، ذات نشاط دُعينا لافتتاح معرض فنّ تشكيليّ، في مكان قريب من “ساحة النّجمة”، وكان لولب الحركة المرحوم أورخان ميسَّر، وبدأتُ أتعرّف على تلك الأجواء شيئا فشيئاً، لأنّ مثل هذه المعارض كانت نادرة في حمص، وكان من أشهر مَن عرفنا من الفنّانين التشكيليّن المرحومان صبحي شعيب، المؤسّس لهذا الفنّ في حمص، وأحمد دراق السباعي، ومن ثمّ تتالت الأسماء، رشيد شمّا، فيصل عجمي، مصطفى بستنجي،الخ أشير إلى أنّ النّشر في الجرائد آنذاك كان مجّاناً، ولم نكن قد عرفنا شيئا عن الاستكتاب، ويكتفي الأديب بأن تُنشَر مادّته، وأرجّح أنّ أوّل ما سمعتُ بالكتابة التي يُدفع عليها تعويض مالي، كان ” في مجلة الجندي”، وكان رئيس تحريرها النّقيب شحّود نظامي، وقد تركتُ له وأنا أودّعه قصيدة، شعرتُ بشيء من الحرج وأنا أضعها فيما يُشبه تهريب أمر ما، نُشرت فيما بعد، وكان استكتابها خمسة عشرة ليرة، ذات مساء ذهبتُ لمشاهدة معرض نحتيّ للفنان المتميّز المرحوم سعيد مخلوف، وكانت معظم أعماله من الخشب، هذا إنّ لم تكن كلّها، وهو ذو نزعة سرياليّة، غرائبيّة، و”سعيد” كان نحّاتاً بالفطرة، فهو لم يكن خريج أكاديميّة، ولكنّ موهبته تفتّحت في جبال الساحل، واشتغل عليها، وانتقل إلى دمشق، وكان من أشهر النّحّاتين في سوريّة، ذات حضور نشاط ذهبتُ إلى صالة عرض قرب “عرنوس” في دمشق، ودخلتّ القاعة وبدأت أتنقّل، ورافقني “سعيد”، ولاح لي أنني شاهدتُ شيئا من معالم وجه ” عبد الحميد السرّاج”، وكان مسؤولا عن المكتب الثاني يومذاك،وكان اسماً لامعاً في تاريخ تلك المرحلة، فالتفتّ إلى “سعيد” وصارحتُه بما لاح لي من معالم، فاتّسعتْ حدقتا عينيه دهشة، وتغيّرت ملامح وجهه وقال لي:” يا إلهي !! كيف التقطتَ ذلك؟!! هذا كان يُشرف على تعذيبي في سجن ” المزّة”، أثناء ذلك جاء الفنّان التشكيلي الشهير “فاتح المدرّس”، وكانت تربطه صداقة حميمية وعميقة بالفنّان مخلوف، بعد أن تجوّلنا في المعرض، أمسك بيدي ” المدرّس” وأخذني إلى طاولة وجلسنا عليها، وأخرج دفتراً وقال:” سأجري معك مقابلة لمجلّة” شعر” اللبنانيّة، وأريد الأجوبة ارتجالاً، وهي مجلّة لعبت دوراً نوعيّا فيما يتعلّق بالقصيدة العربيّة الحداثيّة، وأجبْته على أسئلته، ولم أعرف ماحلّ بتلك المقابلة، بعد عشرين عاماً من ذلك كنتُ في زيارة للصديق المرحوم الشاعر ممدوح السكاف، وكان مديرا للمركز الثقافي الذي كان مقرّه آنذاك، حيث نادي الشبيبة الآن، وبعد الجلوس فاجأني بأن ناولني عدداً من مجلّة ” شعر”، وفتح على صفحة ما، وقال اقرأ مقابلة فاتح المدرّس معك، وكان ممدوح يُسعد بأنْ يقدم شيئا كهذا، أو غيره لأصدقائه، ولمّا كان عدد المجلة من مُقتنيات المركز، فقد نقلتُ تلك المقابلة بخطّ يدي، مدوّناً عليها رقم العدد وتاريخه، كشيء أعتزّ به، ولم أعد أعرف أين وضعتُها بين رُكام أوراقي التي تحتاج لجهد أفتقده الآن للبحث عن شيء فيها، أنا الذي كان يُقال عنّي أرتّب أوراقي بطريقة لافتة، رحم الله الجميع، فقد رحلوا عن هذه الدنيا، وبقيت وأمثالي نستعيد بعض تلك الذّكريات، وفي البال، كلّما مررتُ بهذه الذاكرة، أو هي مرّت بي، ما أزال أردّدّ بيت الشعر الذي أكرّره: هذا جزاءُ امْرئٍ أَقرانُه ذهبوا مِن قبْلهِ فتمنّى فُسْحةَ الأجلِ…

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار