في بدْءٍ، فإنّ كلمة “الفَنار”، وجمعها “الفَنارات”، معناها في المعجم: المَشْعَل، أو المَنَارَة: وهو قرطاس أو نسيج، يُجعَل كالأنبوبة، في أسفله بُلْبُلة تُركَّز فيها الشّمعة، وتُوقَد، فيُحمَلُ من مكانٍ لآخر، ولا تُصيب الرّيحُ الضّوءَ الذي فيه، والكلمة ليست عربيّة!
“الفَنار”، أو “السِّراج”، أو “القِنديل”، أو “المِصباح”، كلمات أربع لمعنى واحد، هو التّنوير! وكما نلاحظ، فإنّ هذه الكلمات مُضَمَّخة بعبير الشّعر وشذاه، عليه فإنّ هذا المخترع الأوّل كان بالفعل أقرب إلى الفنّان التّشكيلي، أو لعلّه كان واحداً من النسّاك، بأحد الكهوف أو الجبال، يتعبّد ربّه على طريقته! أو لكأنّي به كان عاشقاً مُدْنَفاً يناجي قنديله في الليل الفاحِم، مُبعثراً حُبيبات العتمة المتراكمة أمام عينيه، وأمام قلبه بآنٍ معاً..
* * *
نعم هذا المخترع المُبدع، هو فنّان تشكيليّ، لأنَّ تكوين “الفَنار” على هذه الصورة أو الصَّنْعة أو هذا الإبداع، هو أميَلُ لأن يكون تكويناً أنثوياً مُزَرْكَشَاً، خصوصاً بشفافيّة الزجاج الذي يشعّ بالضوء، من مجرّد فتيل قُطنيّ، وقليل من البترول، مثل الكاز! حقّاً لم يكن صاحب “الفنار”، أو “القِنديل” مجرّد صانِع لأداة كان بِمَسِيسِ الحاجة إليها، والمثل يقول: “الحاجة أمُّ الاختراع”، بل كان فوق ذلك جماليّاً، ومُتذوّقاً، وفنّاناً استثنائياً، وإلّا فَمِنْ أين له كلّ هذه المقدرة التّشكيليّة على إبداع واختراع أداة ضوء جامدة، لكنّها تشعّ جمالاً، ونوراً، وربّما لهذا السبب، دخلت الأسماء التالية: “الفَنار، السِّراج، القِنديل، المِصباح”، إلى نصوصنا الشعرية العربية، أو إلى نثرنا العربي، هكذا جهاراً نهاراً، لأنها تلمّست الطريق إلى عقل الشاعر أو كاتب النّثر، بروح مُفعمة بالنّور والضياء! وكثيراً ما استخدم الكتّاب، خاصّة الشعراء مثل هذه المفردات في أخيلتهم ورموزهم ومعانيهم، في حين بقيت مفردة “الكهرباء” العلميّة التي اخترعها “أديسون” مفردة جامدة، لا تُغرِي أحد الشعراء أو الكُتّاب بتناولها وتداولها، وتحديداً في سنوات الحرب الأخيرة، حيث كانت الكهرباء بالنسبة إلى عميان القلوب والعقول، تشكّل بُعْبعاً أسود الهيئة، ينبغي خنقه في المهد.
* * *
ينام الأناسِيُّ السّاهرون، وينام العابرون، وينام الأضياف.. تنام العائلة، تنام الحجارة والأشجار والسيارات وأصوات الانفجارات وأراجيح الأطفال، وقطّة البيت، وشحرور الحدائق، إلّا “الفَنار”، هذا الذي لا يرقد له جفن، ولا تُغمَض له عين، نعم قد ينوس في الليل، لكنه يبقى يسعلُ ببعض الضّوء، مُعانِداً الرّيح، والأشباح، والمخاوف التي لا أساس لها من الصحّة، إذ كثيراً ما نُسِجَتِ الحكايا الشعبية في ليالي الشتاء الطويلة، حول “القناديل” السّاهرة، وكثيراً ما كنّا ننام أيام زمان، على صورة “الغُولة”، و”العفريت”، و”النّسر” الذي يخطف الأطفال، ويحلّق بهم عالياً، وغيرها من “الروايات والحكايات”، التي كانت تسردها الأمهات والجدّات والشقيقات.. بالفعل كان الواحد منّا، أيام زمان، ينام على هذه الصورة، التي تبدو لنا اليوم رائعة متناغمة، وقد تقدّم بنا قطار العمر أشواقاً وأشواطاً ومحطات! أمّا في تلك الأمسيات والليالي، فلم يكن يُبعِد شبح الخوف عن قلوبنا الصّغيرة المُنمنمَة، سوى رؤية القناديل، وهي ماتفتأ تبثّ أشعتها ونورها، كأنّها بالفعل تحرس طفولتنا من “الغُولة” و”النّسر” و”العفريت”، وأظفار العتمة، ومخالب الخوف!
* * *
في بعض الأرياف العربية المتناثرة، التي لم تصلها نعمة الكهرباء بعدُ، تأخذ القناديل مجدها، منذ زمن بعيد، وحتى اليوم، حيث الخيال الريفيّ الشعبيّ يتفتّح على حكايات وأساطير جديدة مُبتكَرة، كأنّ “القِنديل” هو وحده صاحب الحافزيّة المتفرّدة لابتكار مثل هذه الحكايات والأساطير التي نفتقدها اليوم، لا لِشُحٍّ في الخيال والمُخيّلة، بلْ لأنَّ الكهرباء الحالية، لو وجِدت أو جاءت، لا تترك لنا وقتاً كافياً لأنْ نتحدّث ونحكي ونتسامر!
* * *
… اليوم، وراهناً، لا نرى القناديل والفنارات إلّا في الصور الفولكلوريّة، أو في أحد المتاحف الشعبيّة، أو محلات “الأنتيكا”، أو على البَسْطات الأرضيّة، حيث يفرش بعض النّاس الغَلابة الأدوات المستعملة والعتيقة قصْد بيعها.. إنّ جيل اليوم، الذي وُلِد بِظلّ الكهرباء، ونور بطاريّة السيّارة، وأضواء “اللدّات” ، وأنور الشّواحِن، ولم يرَ ريفاً بِحياته، لا يعرف “الفَنار”، أو “السِّراج”، أو “القِنديل”، إلّا من باب أنّه تُحفة أو لُعبة أو شيء من سقَطِ المتاع. واليوم مَنْ يحرس “سوريانا”، سوى “القناديل السّاهرة”، وأصحاب “العيون المتيقّظة”؟!
وجيه حسن