تحية الصباح ..من الذّاكرة 2

في عام 1975 تقدّمت بطلب إعارة للجزائر، وبعد مشقّات، ومعاناة ليس هنا مجال ذكرها، عُيّنت في بلدة « سيدي عيش»، وهي بلدة صغيرة من بلدات القبائل الصغرى ، تقع في وسط غابات من الخضرة الوارفة، فما تكاد ترى إلاّ الخُضرة هابطة الوديان، صاعدة الجبال، وأنواع الأشجار، والغيوم تُغطّي بعض القمم، والقرى المعلّقة في الشتاء، فتراها سابحة في شفافيّة مدهشة، لاسيّما الزيتون، وهذا يمنح الجوّ بهاء ساحراً، ولكنّ الطبيعة، حين نفتقد الإنسان الذي نحادثه، تصبح شيئاً عاديّا، لابل قد تغيب فلا نحسّ بها، فالناس هنا لغتهم « الأمازيغيّة»، والفرنسيّة، وقليلون منهم يتكلّمون العربيّة، وكان طلاّبنا الذين نعلّمهم بعيوننا في إيصال أفكارنا، «الشرقيّون»، وهو الاسم الذي يُطلّق على المعارين من مصر، والعراق، وفلسطين، وسوريّة، .. هؤلاء إمّا أنْ ينخرطوا في لعبة الورق، – الشّدّة-، أو في الحديث عن سعر صرف الفرنك الفرنسي، وعن التحويلات، أمّا المكتبات فتتصدّر واجهتها العارضة كتب المنفلوطي !!
الصّديق الشاعر والنّاقد ممدوح السكاف ذهب ذات عام، ولكنّ إعارته لم تدم إلاّ اثني عشر يوماً عاد بعدها، فقد وجد نفسه أنّه لاقدرة له على الغربة، أمّا أنا فما كنتُ أملك ثمن بطاقة العودة، وإلاّ لفعلتُها، فكنتُ أعزّي نفسي بأنّني محكوم بالإقامة الجبريّة، فأتحايل على ماأعانيه من مرارات.
في تلك الفترة، لم أكد أترك صديقا في سوريّة دون مراسلة، فقد كانت الرسائل التي تصلني، والتي أُرسلها سلواي، ونافذتي، حتى لأكاد أتلقّى في كلّ يوم رسالة، أو أكثر، وكان من جملة من راسلت المسرحي والقاص المتفرّد مراد السباعي رحمه الله، وحين تيسّرت أمور العودة، زارني في بيتي مهنّئا، وكانت أمّ العيال في استقباله، فأردتُ ممازحته، وقلت لها:» هل تعلمين بمَ نصحني الأستاذ مراد، لإزاحة كابوس الوحدة والغربة»؟!قالت : «لا»
قلت: « نصحني أنْ أعشق، فالعشق وحده يؤنس وحدة البراري الموحشة»، حين نطقتُ بذلك داهم الإحراج صديقنا مراد واحمرّ وجهه، واحمرّت أذناه، وارتبك ارتباك شيخ طفل ، ونظر إليّ مندهشا، وإلى أم العيال، وركّز نظره على فنجان قهوته، وابتسامته تفوح .
بعض اللمحات تبقى في الذّاكرة، ولا ندري متى يُخرجها شيء ما في الدّماغ من منطقة الذاكرة إلى ساحة الحضور، فنستعيد الكثير من مشاعرها الآفلة،
هاقد مضى على تلك الأحداث ثلاثة وأربعون عاماً، وما زلتُ في أحايين كثيرة، أتمنّى لو أستطيع المرور بتلك الأماكن في الجزائر في زيارة خاطفة، فلا أستعيد فيها إلاّ الذكريات التي كانت جميلة مؤنِسة، فاخلّصها من ذلك القتام الذي لفّها لدرجة أنّه غيّب الكثير من بهائها في ذلك الزمن.
أرى أنّنا ننجح أحياناً في غربلة مااستقرّ في وعينا، لنُنحّي القاسي الحجريّ، لصالح ماهو طريّ، وأخضر، ومنعش، ولكنّ هذه الذّاكرة تتمرّد علينا كثيرا فتقذف إلى الواعية أحداثاً، وشخوصا، وذكريات نقول عنها ليتها ماكانت…
عبد الكريم النّاعم

المزيد...
آخر الأخبار