تحية الصباح .. من الذّاكرة 63

سأتابع في المساحة المُتاحة الكلام عن زيارة ” ألمانيا الشرقيّة” عام 1980

-ركبنا السيارات نحن ومَن رافَقَنا، وأخذونا إلى منطقة تسمى ” ساكسونيا”، وهي منطقة ذات طبيعة رائعة، وصعدوا بنا إلى رأس تلّة عالية تُشرف على المكان من جميع جهاته، ماذا أقول؟!! أنّى تلفّتَ، إذا كنتَ مثلي، فسوف تسبّح الخالق المبدع، وتحترم الانسان الذي نظّم،

في أعلى تلك التلّة كان ثمّة مُتحف صغير، تجوّلنا فيه، وهو أقرب إلى شكل الكوخ الخشبي، وفيه رأينا لوحة لفنّان إفريقي رسم السيد المسيح .

-في طريق العودة سلكوا بنا سبيلا نهريّاً، من تلك الأعالي التي كنّا فيها، ركبنا سفينة بخاريّة صغيرة، تستطيع أن تطلب فيها شيئا من الطعام والشراب، وأن تجلس فتحتار إلى أيّ الجهات تُوجّه عينيك، لوحة من الخضرة التي لا تنتهي، بما للخضرة من تدرّجات في لونها، وبما حولك من أشجار مُعمَّرة، وأغصان صغيرة نبتت حديثا، وبيوت هي بين شبه اختباء وانكشاف، كأنّها محمولة على كفّ ذلك الأخضر الفاتن، دامت الرحلة، إنّ لم أكن قد نسيت، أكثر من ساعة، ورسا بنا القارب في مدينة ” لايبزغ”

مدينة ” لايبزغ ” مدينة دمّرها الأمريكان بالكامل بعد إعلان ألمانيا استسلامها في الحرب العالميّة الثانية، وأعيد بناؤها كما كانت، استناداً إلى الصور المأخوذة، وأعادوها أجمل ممّا كانت،

تدمير “لايبزغ” آنذاك، يفتح جرح مدينة ” الرقّة” السوريّة التي دمّرها الأمريكان، قيادات أمريكا، حتى الآن لا تعرف إلاّ التدمير، ولا تُجيد غيره!! حتى لكأنّ جينات تدمير أجدادهم الذين أبادوا شعب الهنود الحمر ما تزال تعمل بطاقاتها الاجراميّة كلّها،

-في ” لايبزغ” ما من وفد أدباء سوريّ زارها إلاّ وتعرّف عليه الشاعر السوري المقيم فيها الدكتور عادل قره جولي، الأستاذ في جامعتها، والمتزوج من ألمانيّة، أستاذة جامعيّة، زارت سوريّة أكثر من مرّة، وقد حصد عادل قره جولي أكثر من جائزة مرموقة بأشعاره التي كتبها بالألمانيّة،

في بيت هذا الرجل المضياف فوجئنا بمائدة عامرة مُتخَمة بأنواع الأكل الشامي، الكباب، والمحاشي،واليبرق، وما شابه، وقد سرد لنا أنّ ابنيه اللذين وُلدا في ألمانيا، ونشأا فيها قد اقتنيا أكثر من كاسيت للغناء الشعبي الريفي السوري الذي لم يعرفوه من قبل،

عادل قره جولي أيقونة ثقافيّة، تقدميّة، بكلّ ما للكلمة من معنى، وقد رافَقنا في إحدى جولاتنا فمررنا بكنيسة، فسألته :” هل يزورها أحد “؟ فقال :” نعم، يزورها المسيحيّون”، قلت:” هل في ألمانيا غير المسيحيّين”؟ فقال :” نعم، الماركسيّون”، قلت :” هل نستطيع زيارة هذه الكنيسة”؟، فاقترب وضغط على جرس الباب، فخرج رجل دين مسيحي بثيابه التي تدلّ عليه، وتكلّم معه الدكتور عادل عن رغبتنا كوفد أدباء، فاعتذر قبل مرور ساعتين لأنّ لديهم عماد طفل،

-في مدينة ” فايمر” زرنا بيت الشاعر الألماني الكبير ” غوته”، الطابق الأرضي فيه العرَبة التي كان يركبها، وهو كان يسكن في الطابق الثاني، ما تزال أشياؤه التي كان يستخدمها محفوظة بكلّ عناية، المنضدة التي كان يجلس إليها للكتابة، ريشة الكتابة، أدوات الحبر، كلّ الأشياء التي لامسها ما زالت في مكانها، إذ يعتبرونها إرثاً أدبيّا كبيرا،

-حين عُرض علينا أن يأخذونا إلى حيث ما يُسمّى ب”المحرقة”، التي يدّعي الصهاينة أنّه أُحرق فيها ستّة ملايين يهودي!! اعتذرت عن المرافقة، وجلست في مشرَب قيل أنّ ” غوته” كان يأتي إليه يوميّا، لم أذهب ليقيني أنّ مسألة المحرَقَة مسألة مُضخَّمة صهيونيّا، والذين أُحرقوا فيها ليسوا اليهود وحدهم، بل القتلى، والأسرى الذين ماتوا في الأسر، وثمّة أعداد كبيرة من الغَجر، ولقد فنّد ذلك عدد من كتاب الغرب ذوي الضمائر الحيّة، بيد أنّ الصهيونيّة حاصرتهم، وحاصرت كتبهم، وجمعتْها من الأسواق وأحرقتْها حتى لا يطّلع الناس على تلك الحقائق، بل ثمّة ما هو أخطر إذ تمكّنوا عبر نفوذهم من استصدار قوانين في العديد من بلدان أوروبا تُحيل مَن يشكّك مجرّد تشكيك في المحرقة إلى المحاكمة وإصدار الحكم بحقّه…….

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار