في زمنٍ ما من أزمنة هذه الحياة المُتلاطِمَة، ثمّة مهمّة أولى لأيّ كاتب، أو أيّ أديب، “شاعراً كان أم ناثراً” وهي أنْ يعمل كلٌّ منهما على تنبيه الإنسان العربي، بشكلٍ يؤهّله ليعيش هذا القرن بمعطياته الحامضيّة المالحة، ويعيش فيه، ليكون فاعلاً لا منفعلا، وتلك في الأساس معركة ثقافية، الفكرُ في خضمّها وبؤرتها والصّميم.. السؤال الأبرز ذو المواجع بهذا السّياق: ماذا بقي اليوم من أمانة الكلمة أو الكلمات، في زمن (اختلط فيه الحابِلُ بالنّابِل)؟ ثمّ ألم يُقَل: “في البدء كانت الكلمة”؟ عليه، فإنّ الكاتب الحقيقي الموضوعي، يخطو خطوة أخرى في درب الأمانة للذّات، عندما يطرح على نفسه بكلّ شفافيّة وصدق السؤال التالي: “ما الهدف المنشود من الكتابة”؟! الجواب: تحطيم قيود الماضي، تبصير القارىء/ المتلقّي بأنّ له دوراً مسؤولاً في الحياة، بأن يعيش في معركتها، والكاتب الهُمام، إذا كان اللهمّ صادقاً مع نفسه، أميناً لمهنة الكتابة، وقيمة الكلمة، لا يمكنه أن يستلّ القلم، ويبدأ تأليفاً ونسجاً وتحبيراً.
يقول الكاتب السوري “نزار نجّار”: “قَدَرُ الكاتب أنْ يكون قلقاً دائماً، والكتابة لا تُعَدّ كتابة، إنْ لم تنبع من القلب، أو تتدفّق من الشّرايين”! الكاتب الهُمام ذو الأنوار، يحلم، يريد، يعمل، ينقد ذاته، يتأمّل، مبدأه في الحياة: “قدِّرْ لِرِجلِكَ قبلَ الخَطوِ مَوْضِعَها”، فالأديب من صلب اهتماماته، أنه يعيد إنشاء الواقع صوراً، بهذا يخلق عالماً قَشِيْبَاً (جديداً)، له أحداثه وأبطاله، أحواله وحالاته، أقاليمه ومناطقه، صعوده وهبوطه، شرايينه والأوردة!! أمّا العطبُ لدى كاتبٍ ما، أو شاعرٍ ما، فهو ضعف الشخصية، هشاشتها، فقرُ الدّم الذاتي لدى صاحبها، بل فقدانها كلّ مناعة دفاعيّة؛ العطبُ في بُعده الأدنى، هو منْ شأن إنسان الانحطاط والانحدار، كما مرّ في أعصرٍ سابقة، في حين أنّ التمرّد على العطب والهشاشة والانحدار، هو من شأن إنسان النّهضة، وتحصل المأساة منْ تواجدهما وتقابلهما وجهاً لوجه، وموقفاً لموقف..
وفي هذا السّياق يقول شاعر: “جاءَ الزّمانَ بَنُوهُ في شَبِيْبَتِهِ فَسَرَّهُمُ وجِئْنَاهُ على هَرَمِ”.
العربي الواضح، ذو المحتد الأصيل، والعقل المُتنوّر، يودّ، يريد، يتمنّى، يحاول ما وسعه الجهد التمرّد على التخلّف، على السّوس الذي ينخر العقول والأفعال والنفوس، إلّا أنّ ثقل التاريخ، الذي يشدّ العربيَّ دوماً إلى الوراء، يقف اليوم، وكلّ يوم، سدّاً منيعاً في وجهه، وقد يصرعه ويُجنْدله، أو يجعله لقمة سائغة للفراغ والهزال والضّعف، وذلك هو العطب النفسي والخلقي بآنٍ معاً! ثمّ أوَليس العطب – الأساس هو الموت؟ وأنّ التمرّد على المفاسد والفاسِدين، والرّاشِين والمُرْتشِين، هو قوّة الحياة في حدِّها الأعلى؟ قوّة الحياة في أُسِّها وأساسها، عطاء متجدّد، لا يرقى إليه أيّ شكّ أو اتهام، لكنّ العطب هو انعدام، هو تَلاشٍ، هو قطران الحياة الذي لا يُطاق، بل هو الانكسار الرّوحي والأخلاقي والثقافي، هو ضعف مقوّمات الحياة، في صورها وحالاتها كافّة! من أسفٍ القول هنا: إنَّ الأناسِيَّ بعامّة، مع توافر استثناءات، سلوكياتهم مُزيّفة، مواقفهم كاذبة، ضمائرهم ميتة، وتبلغ عندنا، وعند غيرنا، مأساة السّقوط والانحدار ذروتها، عندما يَتراخَى الوعي، ويتكلّس العقل، ويفقد إنسانٌ ما حسّ المُبادَهَة، عندها يتوارى حِسّ المأساة ذاته، آخذاً دربه نحو الكمون والسّبات وربّما العدم!
وسؤال آخر: ماذا بقي اليوم من أمانة الكلمة والمعنى، في ظلّ طغيان الماديّات على حياتنا وحياة غيرنا؟ الكلمة اليوم: صداها تردّدُه صحارى البشر، فتبتلعه رمالُها، والمعاني أضحت في أعمّها غير ذات جدوى!! عليه، فلا فائدة ممّا ينسجه الكاتب في الأغلب، لأنّه يمارس العبث في مجتمعٍ لا يرى في الإبداع أهميّة تُذكَر في حياته، وأنّ الكتابة مجرّد فعل يمارسُه المُترَفون من الناس ليس إلّا.. بل الكتابة متعة خاصّة، ثمنُها الكثير من حرق الأعصاب، وألم الولادة، والمزيد من صرف الوقت، وبَذْل الجهد..
وجيه حسن