من الذّاكرة 64

                                  

           عبد الكريم الناعم

أتابع الكلام عن زيارة “ألمانيا الشرقيّة” عام 1980

-في مقرّ اتحاد الكتاب الألمان في برلين الشرقيّة استقبلنا رئيس الاتحاد في مبنى يبدو عليه شيء من القَدامة، وما أدري ما إذا كان قد لاحظ ذلك في أعين بعضنا، فقال:” هذا كان قصراً من أهمّ  القصور ذات زمن، وكم شهدت زواياه وغرفه من اتفاقيات سياسية، ومن تحالفات، ومن مؤامرات، وهو اليوم مقرّ اتّحادنا، وتوسّع في شرح دور الأدباء في ألمانيا الشرقيّة، وكان ممّا ذكره، أنّ أحد الروائيّين الألمان المعاصرين كتب رواية، وبعد نشرها، ومتابعة الأصداء التي تركتْها في الأوساط الثقافيّة، استُدعيَ كاتبُها من قِبَل قائد شرطة “برلين”، اتّصل به وقال له :” نتمنّى أن تشرّفنا يوم غد بشرب فنجان قهوة في مكتبي”، في اليوم الثاني جلس في مكتب ذلك القائد، فقال له:” في روايتك البوليسيّة من المعارك التي دارت في هذه المدينة، ما يجعل من بلدنا امتداداً لمدن أمريكا التي تشهد جريمة كلّ عدّة ثوان، وهذا غير دقيق، أنظرْ إلى هذا التقرير، وقد جاء فيه أنّ طلقة واحدة سُمعت في هذه المدينة، طلقة لا غير، انطلقت خطأً من سلاح أحد حراس مقرّ من مقرّات الجيش، خلال عام كامل، فكيف يستقيم هذا”؟!!

قال الروائيّ:” لو أنّني بنيت الرواية بحسب هذا المنظور فلن أبيع منها إلاّ نسخا قليلة، هذا إن بعت”

أجابه:” أمن أجل بيع روايتك نحوّل شوارعنا إلى دماء تجري، وجٌثث تُلقى في الطرقات، وجرائم تُحيط بالمواطنين الآمنين؟!! أعتقد أنّ هذا لا ينسجم مع روح الأدب المسؤول”، وانتهت المُقابلة بهذا التّوجيه،

كان ممّا حدّثنا به أنّ وزارة الثقافة أيّامذاك كانت تُرسل تعميماً لكلّ الدوائر الحكوميّة تعلن فيه عن إقامة دورة لها علاقة بالتأليف الأدبي، وعلى كلّ مَن يجد في نفسه الكفاءة أن يتقدّم إليها، ويفرَّغ المقبولون، بعد اختبار يُجرى، لمدّة سنة، هي مدّة الدّورة، ويتلقّون دروسا وتوجيهات في التأليف، وفي تاريخ الأدب، والثقافة، وبعد نهاية السنة تُعلَن النتائج، وبعض هؤلاء صاروا من الأدباء وانتسبوا إلى اتحاد الكتاب الألمان، والذين ليست لهم المؤهّلات الابداعيّة، ينقلون إلى وزارة الثقافة للعمل كمدراء للمراكز الثقافية، بعد أن اكتسبوا ما يؤهّلهم لذلك.

كتبتُ عن هذه التجربة في تلك الأيام، متمنيّا على وزارة الثقافة في سوريّة أن تستفيد من هذه التجربة، بدلاّ من أن تكون المراكز في بلدنا ترضية للبعض، وتمشية للحال، إذ الاهتمام الجديّ في اختيار أهل الكفاءة لقيادة هذه المواقع شبه غائب ، وإذا كان (بعض) رؤساء المراكز قد جعلوا من مراكزهم قبلة لأعين المثقّفين ومحبّي الثقافة في سوريّة، فذلك محض مُصادفة، وجهد فرديّ يُشكرون عليه، وليس ناتج تخطيط مدروس، كتبتُ ما كتبت وكان صرخة في واد.

-في إحدى الرّحلات كانت السيّارة تعبر بنا منطقة خضراء ، والطريق ليس أوتوسترادا، بل هو أقرب إلى الطريق العادي، ممّا يدلّ على أنّنا في منطقة ليست مطروقة بالازدحام، ومررنا بلوحة تشير إلى تحديد السرعة بستين كيلو مترا، ولم تكن ثمّة سيارة أخرى على امتداد البصر، فقلت للمترجمة:” هنا لا يوجد أحد فلماذا يتقيّد السائق بالسرعة ولا يتجاوزها”؟ فوجّهت السؤال إليه، فلاح بوجهه يمن ويسرة، وقال ما معناه أنتم لا تعلمون كيف يتخفّى رجال دوريّات مراقبة الطرق، في أيّ منحنى؟ وبمجرّد المخالفة يبرزون، وهنا الكارثة، والعقوبات على السائق بحسب نوع المخالفة، بعضها قد يؤدّي إلى سحب شهادة قيادة السيارة لمدّة سنة، بعضها الآخر يُرسله إلى مدارس تعليم السياقة لمدّة مناسبة يتعلّم فيها كيف يقود السيارة من جديد، وهذا لا يعود بأيّ خير عليه، وعاد فلاح برأسه يمن ويسرة أكثر من مرّة..

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار