تحية الصباح .. الإبْرِيز، الإبْرِيسَم، الإبْرِيق..

في بدء، ما معنى كلمة “الإِبْرِيز”؟ وهل هي كلمة عربية فصيحة، أو غير عربية؟ “الإِبرِيز” قارئي العزيز: معناها “الذّهب الخالص”، والكلمة يونانية الأصل والجذر.. والذّهب كما هو متعارَف عليه، له عيارات محدّدة، أعلاها مقاماً الذّهب عيار 24 ، وهناك عيارات أقلّ مستوى، وأضعف قيمة، كذلك البشر، لهم عياراتهم ومناسيبهم وتصنيفاتهم، فمنهم مَنْ هو أقرب إلى عيار الذّهب العالي، وقد اكتسب هذه الصفة من مجمل سلوكاته وعطاءاته في الحياة، مع أهله وذويه، ولِداته وأصحابه، وأهل مجتمعه عامّةً، فهو حين يتمتّع بأخلاق عالية، ويتصرّف في الحياة مع الآخرين بعقل منفتح مُتنوّر، من دون تضييق أو جهل، ولا سقوط  ولا انحدار، حينها وعندها، يُطلق عليه الآخرون، الأصحّاءُ بعقولهم وقلوبهم، لفظة “الذّهب”، فيقولون: إنّ فلاناً من الناس، وبسبب مواقفه الوطنية مع ظروف بلده، والإنسانية حين يتعاطف مع الضّعفاء ، فعلاً وقولاً، والأخلاقية حين يتعامل مع الآخرين بكلّ نبالة وطيبة قلب ونظافة لسان وبيان، وبياض طويّة، لهو في حصيلة الأمر “إنسان إِبْرِيزيّ”، أي أشبه بالذّهب الخالص، البريء من كلّ شائبة أو خلطة أو غشّ، ولو ازداد عدد هؤلاء “الإبْرِيزِيين” النّظفاء، في أرجاء وطننا العزيز من أقصاه لأقصاه، من خلال مواقفهم وسلوكياتهم وأفعالهم النقيّة، لكان مجتمعنا السوري، بكلّ تأكيد، بحالٍ أفضل ممّا نحن عليه راهناً، ولامّحت في رحابه، وبين جنباته وجوه كثيرة لُطّخت بالسّواد والقطران والسّقوط، بسبب تردّي أخلاقها،  وانعدام كثير من القيم العالية، والمبادىء السّامية لديها، حيث المال، بالنسبة إليهم، وحسب منطوقهم وفلسفتهم، هو القيمة الأعلى في الحياة، ضاربين عرض الحيطان بكلّ قيمة ومبدأ وخلق، سياستهم المعوجّة في هذه الدّنيا الفانية: جمعُ المال من أيّ سبيل، وأن كلّ الطرق في نظرهم مُستباحَة، وأنه لا رادع يقف في طريقهم، أو يمنعهم من تحقيق أهدافهم، والوصول إلى غاياتهم، لأنّهم يعيشون على هامش القضية، بل على هامش الحياة، همّهم الأوّل والأخير في الحياة: تدخين السّيجارة، تعاطي النّرجيلة، عقدُ الصّفقات، تلقّي الصّفعات، صياغة المُخاتلات، ضدّ هذا الشّخص أو سواه، ضدّ هذه الكوكبة من الأناسِيِّ أو تلك، المهمّ لديهم، بل الأهمّ: اقتناصُ الفرص، الاصطيادُ في الماء العَكِر، كما يُقال، أكلُ مال الناس بالباطل، احتكار المواد الغذائية الضرورية، استخدام سيارات الدولة في غير ما هو مرسومٌ لها، والأمثلة كثيرة في هذا السّياق ومُتشعِّبة..

                                                                                        * * *

أمّا معنى “الإِبْرِيسَم”، كما وردت في المعجم: فهو “الحرير”، والكلمة فارسية الأصل.. وفي مجتمعنا العربي السوري، كثرة أو قلّة من البشر، هم أولئك المتنعّمون، الذين يعيشون حياة حريريّة، ناعمة، مُرفّهة، يرى أحدنا آثار هذه النّعمة الحريريّة في لباسهم، في مأكلهم والمشرب، بِطُرُز سياراتهم الفارِهة، بمنازلهم ومزارعهم المتكثّرة، التي لا يعرف كثرة من الأهل والأصحاب، كيف حصل هذا المُتنعّم أو ذاك، على هذه النّعم والخيرات، ومن أيّ الطّرق، مع أنّ تاريخه الخافت، لا يدلّ على أنه كان يعيش في الدّمقس والحرير، يوم كان يعيش في بيت والديه وأهليه.. السؤالان المُقلقان في هذا السّياق: من أين جاءته هذه النّعم المُتكثّرة؟ كيف هبطت عليه طيور السعادة والنّعم فجأة، وهو لمّا يزل بأحضان الفقر المدقع، وبهذا العيش الضّنك؟

                                                                                        * * *

ولو أمعنّا النظر في اللفظة الثالثة: “الإبْرِيق”، وجمع التكسير لها هو: الأبارِيق”، وأنّ “الإبْرِيق”: هو إناءٌ له عُرْوَة، وفم، وبُلْبُلة، والكلمة أيضاً فارسية.. لرأينا بالعين المُجرّدة، ومن دون “مايكروسكوب” متطوّر، أنّ مجتمعنا فيه أناسِيّ “إبريقيّون” كُثُر، بمعنى أنّهم لسقوطهم،  وتبعيّتهم لِمَنْ هم أقوى منهم مادياً، وأكثر ملاءة، وأعلى سطوة، وأقبح خلقاً، كعروة الإبريق، يعيشون على هامش الحياة وأرْصفتها وخارجها، يمضي بهم قطار العُمُر سريعاً أو بطيئاً، غير عابئين إلى أين يكون المسير؟ وما هي المحطة التالية لبُخارِ تطلّعاتهم وأحلامهم؟ بل يتنامى في نفوسهم وعقولهم سؤالٌ ذو شوكة حادّة: لماذا أوقعنا أنفسنا، بإرادتنا، ومن دون قسرٍ أو إجبار، في خضمّ هذا المنحدر السّديميّ البائِخ، الذي لا يُعرَف له قاعٌ آمن، ولا مُستقرٌّ منشود، والذي تكثر فيه عادة المطبّات، والمفاجآت، والارْتهانات، وأبخرة الماء، وكَشِيْشُ الأفاعي؟     

وجيه حسن

   

المزيد...
آخر الأخبار