عام 1994في الرّبع الأوّل من ذلك العام، كما أرجّح، كنتُ أتردّد على مبنى الإذاعة والتلفزيون في ساحة الأمويّين،.. زرتُ الصديق طيّب الذّكر صفوان غانم، وكان مديرا للإذاعة وقتذاك، وفي سياق تبادل الحديث، قلت له:” أستاذ صفوان، ثمّة نصف ساعة تُبثّ على البرنامج العام، لكلّ من حلب واللاّذقيّة، فهل ترون حمص أقلّ شأناً”؟
ابتسم وقال :” الله وإيدك، هل تعدّ هذا البرنامج، لمدّة نصف ساعة يوميّا، عدا يوم الجمعة”؟
قلت له:” سأعدّه” وكنّا في الثلث الأوّل من ذلك الشهر،
قال:” هل نكون جاهزين للبثّ في نهاية هذا الشهر”؟
قلت:” لا، اعذرني، فأنا لن أبدأ العمل قبل أن يكون لديّ مواد شهرين كاحتياط”
قال:” أنا بالانتظار”
وخرجتُ من مكتبه وفي داخلي حالتان، واحدة للرضى، وواحدة للتخوّف، والذي شجّعني على طرح تلك الفكرة أنّني أعرف أنّ ثمة ” استديو إذاعي” في قلعة حمص، حيث عمود البث التلفزيوني، عرفتُ ذلك علم 1973أثناء معارك تشرين التحريريّة، فقد جاء المرحوم وديع اسمندر لمشاهدته، بتكليف، ليكون بديلا للبث فيما إذا ضُربت إذاعة دمشق، وزارني في بيتي، وأخبرني بذلك،
فور عودتي بحثت في كيفيّة الوصول إلى القلعة، فقد كان فيها مفرزة من العسكر، ولا يمكن الصعود دون إذن من قائد الموقع، والحراسة قائمة، والصعود إلى أعلى القلعة ممنوع، فقمت بزيارة لقائد المنطقة الوسطى وتربطني به صلة معرفة، وشرحتُ له الأمر، وخرجتّ من عنده وبيدي ما يساعدني للوصول إلى حيث أريد، وكنتُ قد علمت من دمشق أنّ ثمّة فنّيّا اسمه طلحة مهرات، وتمكّنت من معرفة رقم هاتفه، فاتّصلت به وتواعدنا على اللقاء في القلعة،
مذ كنتُ تلميذا في الابتدائي لم أصعد إلى هذا الموضع في القلعة الذي يبسط المدينة أمام عينيك، فتتأمّل ما بقي فيها من آثار أعمدة وحجارة تحتفظ بالكثير الكثير عن غاربات السنين، وهذا جبّ “العنّان” ما زال في مكانه، وتلك الأدراج الهابطة، ونسمة بعيدة لطيفة من نسمات تاريخ حمص القديم تُطلق بعض عطرها في هذا المكان،
التقيت بطلحة مهرات، وهبطنا مسافة طابق تحت الأرض، ثمّة استديو في حال يُرثى لها، فهو لم يخضع لأيّة عمليّة صيانة، أو تفقّد منذ أُنشئ، وفيه ” مكسر” للتسجيل، وآلتان بكر كبيرتان ممّا نُسِّق في دمشق، والاستديو غير معزول، فأصوات الموجودين في الطابق الأوّل، والذي فوقه تصل بسهولة إلى الاستديو، والجميع هنا يتكلّمون بأصوات مرتفعة بسبب وجود آلات البث التلفزيوني،
كان في تصوّري أن تكون هناك في فقرات البرنامج مقابلة يوميّة مدّتها خمس دقائق، فاتّصلت بالصديق الشاعر محمد الفهد الذي ما يكاد يغيب عن نشاط ثقافي، وكانت حمص أيّامذاك في زهوة ألقها الثقافي المميّز، والذي تحدّثت عنه في زاويا سابقة، وكانت استجابته بقدر ما توقّعت، ولم يكن لدينا مسجّلة للتسجيل الخارجي، فاستعملنا مسجّلة كنت أملكها متوسّطة الحجم ممّا يمكن حمله،
إذاعة حلب لديها أرشيف إذاعي عريق، ومتميّز، وإذاعة اللاّذقيّة بين يديه إرث فيروز والرحابنة، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين والقائمة تطول، وكان عليّ أن أبحث عمّا في حمص، ممّا أعرفه، وممّا يمكن أن أتعرّف إليه، فجمعتُ بعض الأشرطة من النوادي، والفرق الموسيقيّة، وكانت استجابتهم رائعة، فصلتي بمعظمهم قائمة قبل هذا البرنامج وبعده، وكان في مكتبتي الموسيقيّة في البيت بعض الأشرطة لأصوات حمامصة، سُجّلت في بعض سهراتها، وتعليلاتها، ومناسباتها، ووضعت في اعتباري أن نقدّم فقرة غناء ريفي لا تتجاوز الدقيقتين يوميّا، لعلمي أنّ هذا سوف يشدّ أبناء الريف لسماع غنائهم، وفي المدينة ثمّة أحياء واسعة انتشرت منذ ستّينات القرن العشرين، معظم سكانها من الريف، وفي مكتبتي الموسيقيّة أشرطة منتقاة لأجود أنواع الغناء الريفي…
عبد الكريم النّاعم