في بادِىءِ بدْء، فقد وردَ في المعجم: ثَقِفَ يثقَفُ: صارَ حاذِقاً خفِيفاً، وَثقِفَ ثقْفاً وثَقافَةً وثُقُوفَة الكلام: حَذِقَه وفهمَهُ، وثقّفَ الرُّمحَ: قوّمَه وسوّاه، وثقّفَ الولدَ فتثقّفَ: هذّبه وعلّمه، فتهذّبَ وتعلّمَ، فهو مثقّف، وهي مثقّفة.. والثقافة: (التمكّن من العلوم والفنون والآداب)!
بناءً عليه، وانطلاقاً من هذه التعاريف، فقد دهمت بوّابة عقلي ثلّةٌ من الأسئلة، على القارىء الحاذق اللمّاح الإجابة عنها بكلّ أريحيّة وصدقيّة ونكران ذات:
سؤال أوّل: أليس من المنطق والتعقّل، أنْ يعيش الناس في سلامٍ وأمنٍ وأمان، في هذا العالَم المُفعَم بالجَمَال، والمملوء أيضاً بسواد الظلم وجبروته؟
سؤال ثانٍ أكثر طلاوة وقرْباً: أليس منْ سيرورة الحياة وفلسفتها وضرورتها، أنْ يعيش العالَم كلّه بتآلفٍ إنسانيٍّ عالي المناسِيب، تحت قبّة النّجوم المتلألئة، التي لا حدّ لاتّساعها عبر ملايين السنين؟
سؤال ثالث مُثقل ببعض الأسَى: أليس الأجدى والأنفع لبني آدم وحوّاء، في هذه المَعمُورَة المُتراحِبة الأطراف، أنْ يتلاشَى منها الشرّ، الذي مايفتأ يتنامَى في قلوب البشر، في هذه البقعة من العالَم أو تلك؟
سؤال رابع: ألا يتلاشَى الشرّ الذي يسكن القلوب، بلمساتِ الطبيعة، هذه الطبيعة التي هي في الأساس التّعبير المباشَر عن كلّ ما هو خيّر وجميل ومضيء؟
سؤال خامس يحوي معانيَ هامّة مُفَادُهَا: ألم يكن الأسلم لنا نحن – أبناء الإنسانيّة جمعاء – أنْ نبحث تحت سطوح الأشياء، لكي نجد المنطق الحقّ لهذه الأشياء؟
سؤال سادس بلونِ الفرح الأزرق: ألم يكن المثقّفون الشّرفاء الأحرار، خلال الأعصر السالفة، والأزمنة الغابرة، يساعدون دائماً في العثور على نظام جديد في الإبداع والخَلق، وعلى معنى في الحياة، وهؤلاء – وليس سواهم – هم الذين عملوا طوال دهور مضت، على تغيير وجه المجتمعات، مطلق مجتمعات، فهم بأفكارهم المُتنوّرة، أسّسوا ركائز إيجابيّة راسخة في الحياة، أضاؤوا للآخرين دروب الحياة، وهم أنفسهم الذين عملوا ويعملون دائماً، في كلّ عصرٍ ، على تأسيس جمهورية للأحرار الشّرفاء، لأنَّ المثقف الحقيقي الحرّ، حسب طبيعته وفلسفته، لا يعرف الزّيف، ولا المُمَالأة، ولا التّدلِيس، ولا الكذب، ولا “تمسيح الجوخ”، ولا السّقوط من أجل المال، ولا المَهَانَة، ولا خيانة أفكاره، ولا خيانة وطنه، ولا الغَرْغَرَة الكلاميّة الجوفاء، ولا التّعالي على الآخرين، ولا الثّرثرة السّوداء، ولا الانخراط في بؤرة الشلليّة المَقيتة، إلخ.. وفي زَعمِي على تواضعِه، فإنّ المثقف الحقيقي، “أي الإنسان”، بكلّ ما لهذه المفردة من عُمقٍ عَميق، ينبغي أن يكون مخلّصَ نفسه، ومخلّصَ أبناء جِلدته، وأبناء شعبه، ممّا هم فيه من أناسٍ فَسَدَة، ومثقّفين مأجورين، وإظلام بادٍ، وضنْك عيش، ومن الترّهات والأباطيل، لأنّ عقل الإنسان، الذي عمل المثقف الحقيقي على بلورته وصناعته، ينبغي أنْ يعمل دوماً في سبيل تنوير القلوب، حتّى يرفعها من خضمّ آلامها، وطِين أوجاعها، إلى فضاءاتٍ أرقى، أجمل، أرحب.. والمثقف الحقيقي الحرّ، “لا المأجور”، البعيد عن “الأنا”، وعن النّرجِسيّة القاتلة، وعن المواقف المترهّلة، والمُحبّ لوطنه وشعبه حدّ الثّمالة، يمكن أنْ يعاني ، لسببٍ أو لآخر، والشّيء بالشّيء يُذكَر، فإنّني سأردّد ما قاله الأديب العالمي “تشارلز ديكنز” }من مشاهير القاصّين الإنجليز، أبدعَ في وصف حياة البسطاء والأولاد البائِسِين{ يوماً، حول قيمة العمل الكتابي والإبداعي في الحياة: “لا ريب في أنَّ كسب لقمة العيش عن طريق القلم، وحرفة الكتابة، إنّما يُعدُّ عملاً مُثبّطاً للعزيمة”! لكنْ حسب قناعة الكثيرين ونظرياتهم، فإنّ المثقف الحقيقي، “لا المأجور”، شعلة حيّة بأيّ مجتمع، وأنّ مجتمعه المُفضّل، ينحصرُ بالأعمّ الأغلب في معاشرةِ جَمْهرةِ المثقّفين المُتنوّرِين، لأنّهم ملحُ الأرض وذهبُها وتفّاحُهُا الحلو أيضاً..
إنَّ المثقّف الحقّ، هو الذي يشارك النّاس عواطفهم وحياتهم وآلامهم، إنّه يتواضع ليرتفع وينتصر، وهو الذي يهبط دائماً إلى مستوى الإنسانيّة العام، وبعمله الرّاقي هذا، فإنّه “يعمل على رفْع الإنسانيّة إلى شوامِخِ البَهَاءِ الخُلُقي”!
ختاماً هذا شاعرٌ عربيٌّ، يقول عن أدْعِيَاء الثقافة، المُتَعَالِين على قضايا وطنهم:
“وإنَّ عَنَاءً أنْ تُفَهِّمَ جَاهِلاً فَيَحسَبُ جَهْلاً أنَّهُ مِنْكَ أفْهَمُ”..
هذا كَافٍ، والسّلام..
وجيه حسن