وهذا واحد آخر من رفاق طريق الابداع يرحل.
-وُلد محمد بري العواني في حيّ “باب تدمر” بحمص، ذلك الحيّ الشعبيّ، وبدأت عيناه تتلقّفان مفردات ما هو بديع، مع تفتّح بواكير وعيه، ولعلّ أقدمها في الذاكرة ” رقص الشيخاني”، كما حدّثني،.. ذلك الرقص البديع الذي كان والده أحد مجيديه في حمص، وكان من لاعبي السيف والتّرس، وظلّ في ذلك الحيّ، وأسّس فيه بيته ومكتبته وأسرته حتى اندلعت نيران الخراب العربي فكان بيته من أوّل البيوت التي أكلتها النيران، ووجد نفسه خارج إطار اللوحة التي كبر فيها ومعها،
-الكتابة عن بري العواني مُتعبة، ومحيِّرة، لأنّك لا تعرف من أين تبدأ ، وهذا شأن المبدعين المتعدّدي المواهب،
-سأترك للتداعيات أن تختار طرق مسارها،
بعض النّاس بعد أن تتعرّف إليهم تنسى كيف كانت البدايات معهم، لما فيهم من حميميّة، فأنت تعرفهم فقط، وهذا كان شأني مع الراحل المبدع، وفي كلّ لقاء يطالعك بابتسامته الودودة، وبحيويّته، وبأنسه،
-الراحل الكريم كان متعدّد المواهب، فقد عاش مع ” الطلائع” زمناً مديداً يربّي، ويلحّن، والتلحين كان واحدا من إبداعاته، فقد لحّن بعض القصائد، وأرسلها للدخول في مسابقة للأطفال في الإمارات، وفازت بجائزة، ولكنّ الإعلام أغفل هذا المكسب، فظلّ ذلك معروفا في دائرة ضيّقة لا غير،
-قلائل هم الذين يعرفون أنّه كتب الشعر، وأذكر أنّه نشر إحدى قصائده في مجلّة ” الآداب” اللبنانيّة، التي لم تكن تنشر إلاّ لمن ترى فيه شاعراً،
-كان دقيقا في مناقشاته، وهذه السّمة لا تتوفّر إلاّ لبعض الأكاديميّين، أو مَن كان في مستواهم، وكان حصيفاً في الكتب التي حقّقها، حتى أنّك لتتساءل كم من الصبر والجَلَد يعاني المحقّق، والذي ما تكاد تفوته شاردة ولا واردة، وأكتفي بذكر تحقيقه لمسرحيات أبو خليل القبّاني، وهذا يقتضي إلماماً واسعا بالموضوع الذي يحتويه التحقيق، وكان كذلك،
-أوّل ما عرفتْ حمص بري العواني عرفتْه على خشبات مسارحها، في نشاطات متعدّدة، وكان ممثّلا بارعاً، وهذا ما اهّله فيما بعد لإخراج عدد من المسرحيات التي عُرضت في حمص، وفي مدن عديدة من مدن القطر،
-ما كان يفوته نشاط جادّ من أنشطة المدينة، على اختلاف تلك الأنشطة، وتنوّعها، يطالعك بقامته، وبتناسق جسمه واعتداله، وابتسامته التي لا تفارق شفتيه،
انتسب باكراً إلى نادي دوحة الميماس، وهو من أقدم الأندية في هذا القطر، وكان عازفاً على آلة الكمان في فرقته، وقد وصلت حالة هذا النادي إلى حالة من التراجع لم يبق له فيها من لمعان إلاّ أسمه، وما يذكره بعض الناس عن أيامه الخوالي، وحزّ هذا في نفس فناّننا الراحل، فعزم على انتشال النادي ممّا هو فيه، فرشّح نفسه لرئاسته في إحدى دوراته الانتخابيّة، وصار رئيسا لهذا النادي، فأعاد له ألَقَه، وتقدّم هذا النادي الصفوف حتى كان مثالا فيما قدّمه، لاسيّما في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، وظلّ رئيسا له حتى رحيله،
-ألّف العديد من المسرحيات للأطفال والفتيان، كما صدر له أكثر من كتاب يبحث في المسرح، ومنها كتاباه عن الراحل مراد السباعي، وعن صديقنا فرحان بلبل، وكتابه ” القوس والوتر” دراسة في علاقة الشعر بالموسيقا، وهما ميداناه، وفيه من النّباهة، والحساسية، ما يعبّر عن رهافته العالية لهذين الميدانين، ويلفتك فيه تلك المفاجآت التي يبسطها بين يديك حتى كأنّك لم تسمع بها من قبل، ويرتاد بك آفاقاً جديدة، بديعة التلاوين، أخّاذة الأفق،
-لقد مرّ الراحل بظروف قاسية، بل مريرة، ولم يُشاهد مرّة شاكيا، وما كان يلقاك بغير الابتسامة والرّحابة،
-في مرضه الأخير، كتب صديقنا محمد خير كيلاني عن مدى اهتمام الرياضيّين بمَن يمرض منهم، واستغرب ألاّ يكون مثل هذا في اتحاد الكتّاب، فاستجاب فاعل خير، ونقله من مشفى الهلال إلى مشفى الكندي على نفقته الخاصّة، فحيّا الله أصحاب النخوة، والوجدان،
-وداعاً أبا راشد، وأرجو أن أكون قد وفيتك بعض حقك…
عبد الكريم النّاعم