وحدها القلاع تجعلني أشعر بعظمة التاريخ وبأس الأجداد , ووحدها تستلب مشاعري وتثير أحاسيسي جلالة الماضي وجماله ، وصمود الإنسان بوجه الأعادي والمحن ، دروس تعطيك إياها القلاع المتربعة في الأعالي تطال أعنان السماء .
كلما مررت من تحتها في طريقي إلى اللاذقية ، ألقي التحية إليها ، وأعتذر وأقول سأزورها في مرة قادمة ، ويمضي أكثر العمر .. والأمنية قائمة .. ولكن !! ولكن ماذا ؟!!. أهو الكسل أم تهيب اللقاء الذي لا بد سيكون عن انتصارات وانكسارات … لكن لابدّ في النهاية من تسجيل انتصار الصمود والبقاء وتحدي المعتدين …!!.
قلعة المرقب تتربع على جبل فوق بانياس .. أهم القلاع الساحلية ، وجدت نفسي أزورها … الطرقات الضيقة المؤدية إليها ، تخيف لكثرة تعرجاتها .. ولكن الحافلة تزحف وتزحف حتى تصل إليها .
تعانق عيناي حجارتها الضخمة وأكاد أقبل كل حجر فيها . وأنا أهمس بأحرف اعتذار عن تأخري في زيارتها , رحت أقتفي آثار أقدام المجاهدين الذين كان جدي بينهم قبل قرن من الزمان وأكثر ، حيث اتخذوا القلعة معقلاً لهم ومنها ينطلقون لمهاجمة الفرنسيين المحتلين بقيادة الشيخ صالح العلي رحمه الله .
من هنا ، من أبراج القلعة وحولها ترى البحر تحتك وكذلك مدينة ” بانياس ” منظر ساحر بلون أخضر ، ومدرجات فيها أشجار الزيتون والتين والصبّار والعرائش وبيوت ” المرقب ” متناثرة وقد أعطت اسمها للقلعة …!!
لا تزال كلمات الباحث والأديب الصديق محمد عزوز في ذاكرتي عن تاريخ القلعة وبانيها بعد دمارها وكانت حصناً فأصبحت على يديه قلعة .. وهو القائد سنان راشد الدين ، ولعل ولع الصديق عزوز بالتاريخ والقلاع جعله يعطي اسم ” سنان ” لابنه البكر تيمناً بباني القلعة والقائد الذي تحالف مع صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين الغزاة .
كنت أتساءل من يحتضن الآخر ؟! القلعة أم ” بانياس ” ؟! بينهما رفقة عمر جاوزت الألف سنة , وأنت في القلعة ترى بانياس تعانق البحر ، وعندما تنزل إلى بانياس تنظر إلى أعلى حيث القلعة بجلالها تشرف على مساحة واسعة من الساحل .
الذين التقيتهم من أهل بانياس أكثرهم لا يعرفون شيئاً عن تاريخ القلعة سوى أنها كانت معقلاً للرجال المناضلين ضد الفرنسيين . ويدهشون عندما تخبرهم أن القلعة بنيت أول مرّة ، في القرن الحادي عشر ثم احتلها البيزنطيون ثم استردها العرب ثم تصدعت بفعل الهزات الأرضية ثم أعاد بناءها سنان راشد الدين .
من القلعة يأخذك الشوق نفسه إلى وسط بانياس حيث ” عين النبع ” تتدفق المياه والأشجار تظلل المتنزه وأنهار صغيرة تحيط بطاولات المقصف من كل جهة … !! مياه جارية عذبة باردة جداً … تذهب للبحر …!!.
على شاطىء بانياس يحلو السهر .. بعدما تغطس الشمس في البحر ، يخيم الهدوء ، وتتأهب بانياس لليل جديد هادىء مثل الموج تلك الليلة .
مشهد باذخ في جماله لا يعكره سوى عدد من المتسولات .. وثمة متسولة تقف أمامي وتبدأ بدعاء يكاد لا ينتهي ” الله يعطيك .. الله يعلي مراتبك ……!!”
سألتها : ” مراتب ماذا ؟! وأنا كهل ولست شاباً …!!”
شكراً لرابطة الخريجين الجامعيين التي نظمت هذه الرحلة العلمية السياحية .. الرائعة جداً…!!
عيسى إسماعيل