بداية أشكر مَن ذكّرني أنّ الشاعرة قمر صبري الجاسم قد عملت لفترة في هذا البرنامج، وكانت تُجري مقابلات إذاعيّة، جلَّ مَن لايسهو.
نتابع الكلام عن برنامج ” هنا حمص”..
-كان علينا أن نعطي المناسبات الوطنيّة والدينيّة حقّها، فاعتمدت على الأصدقاء والأقرباء للحصول على أرقام الشركات المُنتِجة، وكنت أتّصل بها، وآخذ ما لديها من أرقام تدلّ على ما يُنتَج، وكانت وسيلتي الأساس الهاتف، فليس لدينا مراسلون، ولا موظّفون، وعلينا أن نتدبّر أمرنا بالطرق التي توصل إلى الغرض.
-في شهر رمضان المُبارك تُختصَر مدة البرنامج إلى ربع ساعة، وكنّا نملؤها بما يتناسب مع التقاليد الدينيّة الاجتماعيّة، وكان عليّ أن أحرّر كلّ ذلك بمفردي، إلاّ ما ندر، وأن أبحث عن الخصوصيّة الحمصيّة في ذلك، فكان الكلام عن الصحابة الذين عرفتهم حمص، وعن الأسماء المشهورة المدفونة فيها، وإعطاء لمحة موجزة عنها، وقد يبدو مثل هذا القول سهلا في النّطق، وفي الكتابة، بيد أنّه شيء آخر في التّنقيب، والتّهيئة، والاعداد، والصّياغة، ولا يعرف مقدار التعب العصبي والنفسي، والمُلاحقة الدّائمة إلاّ من عاش أجواء مُشابهة.
-وقعتُ في حيرة فيما يتعلّق بالمقابلة اليوميّة التي يجريها زميلنا محمد الفهد، فلا بدّ من هذه المقابلة، وعلينا أن نجعلها متناسبة مع المناسبات، وهذا يحتاج لتنقّل، واتصالات، وليس لدينا شيء من الأدوات والوسائل المساعدة، فكان محمد يحمل تلك المسجّلة ويذهب إلى الأماكن التي تحتاج لتغطية،
بالمناسبة نقول إنّ الأيام الثقافيّة في مدينة حمص، آنذاك، كانت تبلغ مئتي يوم ثقافي، وكان صديقنا أبو وضاح لا يترك نشاطاً إلاّ ويغطّيه التغطية الوافية، وساعده على ذلك ثقافته، وأنّه شاعر،
كنتُ أعلم أنّه سيأتي زمن أتحسّر فيه على مضمون تلك المقابلات، ولكن ما باليد حيلة، فقد كنتُ أشتري أشرطة الكاسيت من جيبي، وكنت ذكرتُ ذلك لمدير الإذاعة في دمشق، فقال أنت تعرف الروتين، إذا أخذت علبة أشرطة فتُسجّل على اسم أحد الموظّفين، وسيُطالَب بإعادتها ولو بعد حين، ففضّلتُ أن أشتريها على نفقتي، وكم كان يحزنني أنّ جهد تلك المقابلات، ومضمونها، وأصوات مَن أُجريت معهم المقابلات سوف تُمحى، ولا خيار لنا، لأنّنا لو أردنا أنّ نؤسّس أرشيفا لها فإنّ هذا يحتاج إلى ميزانيّة خاصّة، وإلى مكان يُحفَظ فيه،
ها أنا الان، كما كنتُ يومها أشعر بحجم الخسارة، فلم يأت محاضر، ولا شاعر، ولا موسيقي، ولا جرى عرض مسرحيّ، إلاّ وأُجريت معه، أو عنه مقابلة، ولم يكن ضيوفنا من السوريّين وحدهم بل كلّ الضيوف العرب الذين دُعوا إلى حمص، وكان الزمن زهوة النشاطات التي انبثقت عن مجلس الفعاليات الثقافية بعد عام 1984، كان كلّ من يزور حمص يقول ” هذه عاصمة الثقافة” بجدارة،
-هذا الجهد كان يخفّف من أعبائه ما نراه في أعين الناس في هذه المدينة، والارتياح الذي يعبّرون عنه، بطرق عديدة،
أذكر أنّني كنتُ عائدا من وسط المدينة باتّجاه الحيّ الذي أسكنه، وكانت سيّدة البيت قد طلبتْ أن أحضر معي شيئا من ” الكنافة”، وكان طريقي يمرّ بما يُسمى الميتم الإسلامي في حيّ باب هود، إذ في نهاية تلك النّزلة، اشتُهر محلّ بهذه الكنافة، وقفتُ قبالة الذي يبيع ويزين، وطلبتُ ما طلبت، فلاحظتُ أنّه يطيل النظر فيّ بطريقة لافتة، قلت لعلّه أحد الطلاّب الذين درّستهم، يقطع قطعة الكنافة، وينظر في وجهي، يضعها في الميزان ويعاود النّظر، ولمّا تكرّر ذلك قلت له مستفهما بلباقة ودون إحراج:” أراك تُطيل النظر فيّ، فهل تعرفني”؟ قال : “لا”، قلت:” فلِمَ كلّ هذه المُعاودة في النّظر”؟! فقال :” ألستَ فلان” ؟ قلت: نعم، فكيف عرفتَني”؟ فقال:” من صوتك في الإذاعة، في برنامج ” هنا حمص”
كان هذا، وأشباهه يبعث فيّ طاقة من جديد، فأصبر على المرّ، لقاء حلاوة قد لا تعني للآخرين شيئا، بيد انّها تمتدّ جسرا خفيّا بين المشاعر وارتسامها في الكلام، أو في العيون…
عبد الكريم النّاعم