لقد جهدتُ من أجل أن تكون رائحة أكاسيا حمص تفوح في كلّ فقرة من فقرات ” برنامج ” هنا حمص”، فاعتمدتُ على ما لديّ من أشرطة كاسيت، اقتنيتُها لنفسي، وصرتُ أسأل بائعي الكاسيت من أصدقائي، كرياض الفاخوري، والمرحوم أديب المحرز الذي استهدفه تنظيم داعش الإرهابي في بداية الحريق العربي، وهو ابن سبعين سنة، فقد كان نشيطاً في اقتناء تسجيلات السهرات الحمصيّة، فأضفتُ ما وجدتُه، وسألتُ عمّا في إذاعة دمشق من تسجيلات لمطربين حمامصة، فما وجدتُ غير المرحوم معن الدندشي، وعبد الكافي أحمد المعروف عند أهل حمص، بكنية ” عَجَل”، و” مروان سالم” ، وفوزي كوثر
أرجو أن تسعفني الذاكرة لسرْد معظم تلك الأسماء التي كنّا نبثّ أغانيها بين الفقرات:” عبد الواحد الشاويش-ابراهيم العباس أبو مهدي- الحاج ممدوح الشلبي- عبد الوهاب الفصيح- ياسر السيد”-عيسى فياض-برهان الصباغ-موفّق الشمالي- سمير عماري-هيام داغر- أيلينا لازار- سمر بلبل-، ولأنّ القائمة طويلة سأرجئ بقيّة الأسماء لفسحة أخرى، واعتمدتُ على الأشرطة الموجودة بحوزة النوادي والفرق الموسيقيّة، ولم نترك صوتا فيها إلاّ وقدّمناه، ولعلّ من أبرز هذه الأسماء النسائيّة ليندا بيطار، فقد عرفها الناس عبر هذا البرنامج قبل أن تصبح نجمة من نجمات الطرب، علياء عيسى، تلك الموهبة الرائعة الدافئة الصوت، والتي سافرت بعد الزواج إلى أحد بلدان الخليج، وانقطعت أخبارها، ولم نُغفل الأصوات الجديدة التي تقدّمها النوادي في حمص، وأكرّر الإشارة إلى أن كلّ هذه النوادي والفرق ظلّت متمسّكة بالطرب القديم الموشحات، والأدوار، والقصائد، وأغاني المشهورين من أهل هذا الاتّجاه،
أغتنم هذه الفسحة لأشير إلى أنّني تعمّدتُ إحياء غناء الموال السبعاوي، والذي يسمّيه بعض الحمامصة : البغدادي، ومن أشهر مَن غنّاه في تلك الأزمنة نجاح شيخ السوق، وغازي شيخ السوق، وياسر السيد، و ممدوح الشلبي، مصطفى وردة،أديب الطشّ، الذي اشتُهر كثيرا بين أهل هذه المدينة كمطرب شعبيّ،
هنا من المفيد أن نذكر أنّ الموّال ” البغدادي” انتقل إلى سوريّة من العراق، وقد حافظ ناظموه على لهجته العراقيّة، ويسمّى في العراق ” الزّهيري”، سمّوه بهذا الاسم لأنّه ” زهرة” في الغناء، واشتُهرت به مدينة حلب كثيرا، وله شعراؤه، كما كان له شعراؤه في حمص، وثمّة كتيّبات احتفظت لنا ببعض المراسلات بين شعراء بغداد من أهل حلب وحمص،
هنا أيضا من المفيد أن نذكر أنّه ما تكاد تخلو سهرة حمصيّة، أو ” تعليلة”، أو مناسبة فرح، أو عرس من العديد من أهل حمص الذين يغنّون هذا اللّون، وكان سيّد الغناء الشعبي في هذه المناسبات، تليه الطقاطيق الطربيّة، وكان المرحوم نظير بطّيخ، من أواخر من برع في كتابة هذا اللون، إذ أنّ أية مناسبة فرح كانت تحفل بالرقص الشيخاني مع مرافقة الموّال، يغنّي المؤدّي شطرين من الموّال من أصل سبعة، وتتعالى تلك الجملة الموسيقيّة الخاصّة بالشيخاني، فيقوم الرجال بثيابهم العربية، الجلاّبيّة أو القنباز، أو الشروال، ويبدأ أداء الرقص، وله جملة موسيقيّة لا تُسمع خارج مدينة حمص،
ممّا يؤسف له أنّ التسجيلات صوتا وصورة لمثل تلك السهرات قليلة ونادرة، رغم مافيها من أناقة، وجمال، وخصوصيّة، تتراجع الآن حدّ درجة الاختفاء، مثلها مثل الكثير من الأشياء الأنيقة الباذخة الجمال، فكم يشعر بالغربة مَن عاش تلك الأجواء، وامتدّ به الأجل مثلي حدّ أنّه لم يبق شيء من ذلك، إنّها غربة متراكِبة، ويزيد الإحساس بها طغيان السطحي، والرديّ، والغناء الذي همّه أن يجعل الحاضرين يعبّرون بأقدامهم وبهزّ أردافهم، ويزيد الغربة كثافة أنّ الإذاعات الرسميّة، والفضائيّة لا تبثّ شيئا من ذلك، وربّما اعتبرته فنّاً غير جدير بالاحترام، والذي نسمع نُتفا منه من أصوات حلبيّة أصبح مكرّرا لدرجة الملل.
عبد الكريم النّاعم