“تحية الصباح”… التربُّح من وراء الكتابة!

 قارئي العزيز، قارئتي العزيزة، في مجتمعنا السوري، وفي أوساطنا الاجتماعية بعامّة، قد يخطر على أذهان كثرة كاثرة منّا خاطرٌ أزرق مُفادُه: أنّ الكاتب أو الأديب في بلدنا يتقاضى عن المادّة الأدبيّة أو الفكريّة – التي ينشرها في هاتِهِ المجلة، أو تلك الصحيفة – مبلغاً محترماً من المال، يوازي أو يعادل مبلغ الجهد الذي يبذله، أو قيمة ما يصرفه من ثمن كهرباء، وانحناءات في الظهر، وإعمال للفكر، وهو جالس إلى مكتبه أو إلى حاسوبِه “الكمبيوتر”، يهندس مادّته بعد تكوينها وكتابتها، ينقّحها يغربلها ويدقّقها، قبل أن يدفع بها إلى رئيس التحرير، أو مدير التحرير، أو هيئة التحرير قصْد النّشر، ومن ثمّ لا بدّ – إذا نُشِرت – أن تصل إلى  قرّائه/ قارئاته الذين – من الواجب الأدبي والخلقي أنْ يحترمهم أيّما احترام، ويقدّر أوقاتهم وعقولهم وصبرهم، وهذا هو المفروض والمتوقّع والمأمول، ويظنّ كثيرون على وهْمٍ وخيبةٍ وانكسار، أنّ الكاتب / الأديب، يتقاضى على عمله الإبداعي الذي ينتجه حفنة محرزة من النقود، أو أنه فعلاً لا ادّعاءً يسبح في بحبوحةٍ من العيش من وراء الكتابة، مثله مثل الذين يشتغلون في واحد من ميادين الدراما والتمثيل والسينما والإخراج والتّلحين والغناء والإنتاج، وهؤلاء في الواقع متفوّقون على كثيرين ممّن يشتغلون بواحدٍ من “الفنون الجميلة”، من رسم ونحت وتصوير وموسيقا وشعر وقصة ورواية إلخ، مع العلم والتّذكير والتأكيد، أنّ المشتغلين بواحدٍ من هذه الفنون الأخيرة، كذلك لكلٍّ منهم بصمته وتأثيره الأدبي والمعنوي والإنساني في المجتمع، بحيث يثبّت ويرسّخ – اللهمّ إذا كان شخصاً صادقاً – في وجدان وعقل وضمير المشاهد أو المستمع أو القارىء بصماتٍ لا تُمحَى، وقد يغيّر الكثير من الأفكار والتوجّهات والرّؤى، خاصّة إذا ما كان هذا المبدع متمكّناً من حرفته ,مخلصاً في أدائها، على أحسن ما يكون الأداء والإخلاص..

نعم يخطىء كثير من الناس في مجتمعنا، حين يظنّون “وبعضُ الظنّ إثم”، أنّ الكاتب المبدع، أو المُشتغل بواحدٍ من “الفنون الجميلة”، يستطيع بعمله وإنتاجه كَنْزَ المال وتهرِيمَه وجمْعَه، لقناعتهم السطحيّة وسذاجتهم، أنّ أمثال هؤلاء المبدعين المُنتجين، الذين يصرفون جلّ أوقاتهم وزهرة حياتهم في أعمال جليلة، تعود على أبناء مجتمعهم بالفائدة المرجوّة، والإثمار المنتظر، والتأثير المُجدِي، إنّما يتربّحون من حصائل أعمالهم ونِتاجاتهم وإبداعاتهم، مثلهم في ذلك مثل التاجر المُحنّك، الذي يكنز الأموال ويجمعها من الزّبائن، أو من حصائل مجهود العمال الذين يعملون عنده، ولا ينتابهم من تلك الحصيلة المالية في نهاية الأسبوع، أو في ختام الشهر سوى النّزر اليسير من النقود، لا يعادل بحالٍ من الأحوال كِفَّة المتاعب والمشقات التي تحمّلوها، وقيمة العرق المُتصبّب من جباههم الشمّاء، وهم يرومون من وراء ذلك تأمين لقمة العيش النظيفة لفلذات الأكباد، وتربيتهم وتعليمهم، أو في أحسن الأحوال دفْعَهم لتعلّم واحدة من الحرف والمهن التي يكون من ورائها التربّح المادّي الحقيقي، كمهنة النجارة، وكهرباء السيارات، ومهنة الميكانيك، والحدادة الإفرنجية، وتفصيل الألمنيوم، وما شابه، وقديماً قالوا: “مهنة في اليد أمانٌ من الفقر”!

عود على بدء، فإنَّ المبدعين في الميادين الأدبية والفكرية والفنيّة كافّة، نادراً ما نقع على واحد منهم، قد تربّح الكثير من عمله الإبداعي أو الكتابي، ولا يفوتني لفْت الانتباه في هذا السّياق: إلى أنّ شاعراً حداثوياً، قد ظهر على الساحة الأدبية على حين غرّة، من دون أن يطلع على شِعرَه من قبلُ أحدٌ من القرّاء، ولم ينشر يوماً في أية صحيفة، أو  أيّة مجلة شيئاً من نتاجه، قد طبع من ديوانه الشعري الأول نحو خمسمئة نسخة، كلّفته حينها ما يقارب المئتين والخمسين ألف ليرة، كما رُوِي، والعهدة على الرّاوي، السؤال العريض في هذه الحالة هو: هل يتمكّن هذا الرجل الحداثوي المستجدّ من بيع ديوانه الشعري الأوّل، وأنْ يعيد إلى جيبه المبلغ الذي دفعه كأجور للمطبعة، التي أخرجت له هذا الدّيوان ليبصر النور؟! لا أظنّ ولا أعتقد أنّ أحداً من القرّاء المتنوّرين سيقول بالفم الملآن: (نعم بكلّ توكيد)، لأنّ واقع الحال يقول عكس ذلك تماماً، فالشكوى من بيع الكتب “شعراً ونثراً” قصْد التربّح والرّسْمَلة، قد أضحت في أيامنا الراهنة شكوى ذات إبرة مدبّبة، تَخِزُ عصبَ الرّوح فتجرحه، فتؤلمه، ناهيك عن أسعار الكتب التي تكوي القلوب والجيوب، ومهنة الكتابة – وهذا بيتُ القصيد – على أهميّة دَورها في عجلة الحياة، لا تُطعم اليوم خبزاً ولا زيتوناً ولا هواءً، وهذا كافٍ والسلام..       

وجيه حسن

المزيد...
آخر الأخبار