في عام 1954 قدّمتُ طلبا للعمل كمعلّم وكيل، وعُيّنت في قرية ” البْويضة” الواقعة إلى الشمال الغربي من بلدة ” أمّ العَمَد”، على بعد بضعة كيلومترات، ولم أعد أذكر بعض التفصيلات الصغيرة، والتي هي من صميم الحياة، بسبب تقادم الزمن، ولذا سأقتصر على ما بقي شاخصا، كأنّه ابن البارحة، كيف كنتُ أتدبّر أكلي، وأين نمتُ الأيام الأولى، .. هذا ممسوح من الذاكرة، وكان هذا بعد الانقلاب الذي حدث على العقيد أديب الشيشكلي، والذي ألغى نظامه نجاحي كمعلّم بسبب مناوأتي لذلك النظام، وهو ما ذكرته في كتاب ” مدارات 1- سيرة زمن، المطبوع في وزارة الثقافة عام 2006.
المدرسة غرفة تبرّع بها المختار، وتضمّ طلاّبا من الصف الأوّل حتى الثالث، وكان من عادة أهل القرى أن يدعوا المعلّم إلى بيوتهم، ويقدّمون له من الضيافة، كلّ بقدر سعته، وكان بسبب هذا أن تعرّفتُ على أبو علي شريف، وهذا كلّ ما أعرفه عن اسمه، كان رجلاّ متوسّط الطول، عريض المنكبين، ابتسامته تسبق أيّ كلام لديه، وكان قد خصّص غرفة من غُرف بيته كمضافة له ولأصدقائه، وتمتّنت علاقة الودّ، على ما بيننا من فارق السنّ، فقد كان في الأربعين من عمره كما أقدّر الآن، وكنتُ أخطو باتجاه العشرين، وصار من برنامجي اليوميّ أن أذهب إليه كلّ مساء، فنجتمع على القهوة المرّة، وعلى تبادل الأحاديث، وكان له ابن عمّة وهبه الله صوتاً جميلا، يطرّز سهراتنا بين يوم وآخر،سأتجاوز التسلسل الزمني، وأعود إليه تالياً، ففي اليوم الذي جاء معلّم ” اصيل” كان عليّ أن أودّع هذا الصديق الأنيس الجميل، وتغيّرت ألوان وجهه حين أخبرتُه بأنّني سأغادر القرية، وكان ذلك بعد مرور أقلّ من شهرين على تكليفي بذلك، جلسنا صامتين، وحين قمتُ لأغادر، وأنا أشعر بحزن عميق، خرج إلى أرض الدار، ووضع يده على كتفي، واتّكأ عليه وانخرط بنشيج مؤلم، وقفتُ عاجزاً عن المجاراة وقلبي يتقطّع مزقا في صدري،وحين انتهى من بكائه قال : هذا يعني أنّي لن أراك بعد اليوم، ودافع غصّة مشحونة بالبكاء.
غادرتُ تلك القرية وظلّ أبو علي شريف يسكن ذاكرتي، وانا من نقاط ضعفي، إنْ كان ذلك ضعفا،أنّني لا أنسى مَن واصلني ولو بفنجان قهوة، وأعتبره ديناً في عنقي، وتتالت سنوات العمر، وكلّما مررتُ بتلك القرية في سفر مع أحد، أتمنّى لو أزور هذا الذي لا أنساه، ذات سفرة أقنعتُ مَن أنا معهم أن أسأل عن هذا الرجل، وحين اقتربنا من البيت، وقد تبدّلت بعض علامات البيوت، وكان ذلك بعد أكثر من ربع قرن، سألتُ أحد الرجال عنه فقال لي: قبل نصف ساعة ذهب باتجاه الأرض التي يملكها للعمل فيها، فشعرتُ بخيبة أمل، ظلّت تلك الأمنية في قلبي كلّما مررتُ بذلك الطريق، وكم سلكناه في مناسبات متعدّدة، ولم تتيسّر لي بعدها أيّة فرصة للقاء هذا الرجل، حتى لكأنّ المقولة الشعبيّة” الاجتماع مقدَّر” على قدر من الصرامة في التحقّق، أعتقد أنّ أبناءه الآن قد صاروا في سنّ الشيخوخة، ولا شكّ أنّه فارق هذه الدنيا، الذين نحبّهم يغادرون مسرح الحياة، ولا يغادرون قلوبنا، ولستُ أدري إذا ما كنتُ في هذا، كآخرين، مِن حَمْل الحنين، والتذكّر، والاشتياق، وعدم نسيان مَن أحسن ولو بابتسامة ودودة،.. ما ادري ما إذا كان ذلك ممّا يُمدح، أم أنّه دليل على حالة من الضعف البشري، بيد أنّه ضعف نبيل، ليس كضعف الخَوَر، أو الاستسلام، أو الرّخاوة الممقوتة، ولستُ أبغي التخلّص منها، فأنا مرتاح لما فيها من نَداوة الطّبع، والمسافرة في تلك الرحاب…