من الذّاكرة 81

نظلّ في قرية ” البْويضة” التي ذكرناها في زاوية سابقة، أواخر عام 1954

ذات يوم ارتفع صوت الطّبل ترافقه الزورنة، وكان قريبا من المدرسة، فشتّت ذهن التلاميذ، ولم يطل الوقت فقد جاء مختار القرية ورجاني أن أوقف التدريس هذا اليوم، فالتلاميذ لن يستفيدوا شيئا وصوت الطّبل في آذانهم، وكانت الأعراس في تلك الأيام ذات تقاليد في الأرياف معروفة موروثة منذ أزمنة قديمة، ولم تكنْ قد وصلت إلى ما وصلت إليه من المسخ والتشويه، بعد أن غُيّبتْ تلك الملامح التراثيّة الرّائعة.

أحضروا عدداً قليلا من الكراسي القشّ الصغيرة، وجلسنا عليها، وقام سوق الدّبكة، بأنواعها، وبالثياب التي تُخزَن لمثل هذه المناسبة، للرجال والنساء، على أنّ في ثياب النساء من الألوان والبهاء ما ليس في ثياب الرجال.

مساء دعونا لحضور حنّة العريس، وفي بيت آخر تُحنّى العروس، وكان للحنّة طقوسها المتوارثة، فالعريس يحنّي يديه، والعروس تُحنّي كفّيها وقدميْها، بدؤوا بعجن الحنّة، وارتفعت أصوات جميلة تُغنّي غناء شجيّاً، يا إلهي هذا وقت للفرح، فمن أين جاء كلّ هذا الحزن؟!! لا شكّ أنّه حصيلة أزمنة موغلة في القِدَم، كما أنّه حصيلة كلّ العذابات التي عرفها فلاّحو هذه البلاد على أيدي الغزاة المحتلّين، لاسيّما الاحتلال التركي الذي جثم أربعمئة سنة من سنوات التخلّف، والنّهب، والظلم، ولعلّ بعض ذلك الشجن يعود إلى الينابيع الأولى لإنسان هذه البلاد، منذ الأيام الأولى التي وقف فيها العقل البشري يطرح الكثير من الأسئلة التي ما تزال بغير أجوبة حاسمة.

نعيد للذاكرة أنّ الحنّة في الأرياف، قديما كانت تقليدا متّبعا في عيدي الفطر والأضحى، وفي العرس، وكم كنّا نُعاني من ربط اليدين بعد ملئهما بالحنّاء، إذ تبقيان مربوطتين طوال الليل، وفي الصباح، يُفَكّ ذلك القيد، ونتباهى أيّنا كفّه قد أثّرت فيها الحنّاء بلون غامق، فيُباهي ويقول: “حنّتي تَمّْرَتْ”، أي كانت بلون التّمر، وهذا يكاد ينسحب على كلّ مناطق الريف في سوريّة..ز

-بعض الأزمنة على قِصَر زمنها تكون محتشدة بما يُقال:

-في تلك القرية ذهبت ذات مرّة لشراء حاجة من الدّكّان، فطالعني وجه أقرب إلى الشيخوخة، يضع الحطاطة والعقال على رأسه، ويرتدي طقْماً فرنجيّاً، لا القنباز ولا الجلاّبيّة، وخصْر بنطاله يصل إلى ما فوق السّرّة بقليل، وقد وضع أمامه كأسا فيه شيء منقوع، وهو يتناول بسكويتة من النّوع الطويل، فيقضم منها قضمة، ويقرّب الكأس ذات المنقوع فيشرب منها بواسطة قصبة معدنيّة، وحين سألته عمّا يشرب، قال :” هذا شراب اسمه “المتّة”، ولم يكن معروفا في سوريّة آنذاك، وهذا الرجل عاش في بلاد المهجر سنوات طويلة، وحين تقدّمت به السنّ، حنّ للعودة إلى مسقط الرأس، كما تفعل أسماك السلمون، فجاء ليموت في بلده، وأحضر معه المتّة… المتّة التي أصبحت طقسا يوميّا عند البعض، وقد يتكرّر أكثر من مرّة في الكثير من البيوت، بل يمكن القول إنّ معظم أرياف بلادنا غزتها هذه المتّة، وبعض البيوت يشكو من أنّها تشكّل عبئا عليه بعد غلاء الأسعار، ورغم أنّ علبة المتّة تجاوز سعرها الألفي ليرة سوريّة، فإنّ البعض لا يستطيعون الاستغناء عنها، لكأنّ فيه شيئا من الإدمان!!

-بالمناسبة أذكر أنّني أدمنتُ شربها في ثمانينات القرن الماضي، وكان حين يحلّ وقت شربها يتحلّب ريقي، وكنتُ أشربها عصراً، وفي احد الأعوام دُعيتُ لمهرجان جرش في الأردن، وهناك ما كانوا يُقبلون على هذا الشراب كما هو الحال في سوريّة، وبدأتُ أعاني من تحلّب الريق عصر كلّ يوم، فقرّرت أن أتخلّى عن هذا الشراب، وهذا ما كان.

-قبل نصف قرن تقريبا تعرّفت في بيت أحد أصدقائي، في قرية من  ريف  حمص،.. تعرّفتُ إلى شرّيب متّة من نوع خاص، فهو يجمع في أيام الربيع من البراري أنواعا متعدّدة من الأعشاب، ويجفّفها، ويستعملها بدلاً من المتّة، أقول ذلك عسى أن ينتفع به البعض…

عبد الكريم النّاعم

aaalnaem@gmail.com

المزيد...
آخر الأخبار