نظلّ في قرية ” البْويضة” أواخر عام 1954
تعرّفتُ فيمن تعرّفت في تلك القرية بشاب فارع الطويل، ممتلئ الجسم، يوحي بقوّة جسر، وأبوه من وجوه تلك القرية، وفي إحدى الجلسات سألني:” ألا تشرب”؟ قلت متجاهلا:” هل يعيش أحد دون شرب، كيف لا أشرب، ها كأس الشاي أمامي، فضحك بحذر وقال :” ما قصدتُ هذا” وأشار بيده إشارة مَن يعبّ من (كأس)، قلت:” بلى أشرب”، قال:” لي صديق في هذه القرية، وأشار إلى قرية قريبة من قريته تقع إلى الجنوب الغربيّ منها، اسمها :” نَوى”، وتابع:” ما رأيك أن نذهب اليوم ونشرب عنده، قلت:” كما تريد”، قال :” قُمْ”، وكانت الشمس مالت للغروب، ومشينا سيرا على الأقدام مدّة ساعة تقريبا، كما أقدّر الآن فوصلْنا مع أوّل غياب الشمس، فوجدنا صاحب البيت فوق سطح بيته يقوم ببعض الأعمال، وفور رؤيتنا رحّب بوجه بشوش، فقال له رفيقي:” هب لديك “كِرْسنّه”؟، فأجابه :” موجود”، فسأله:” حمراء أم بيضاء”؟
فأجابه:” الاثنتان موجودتان، تفضّلوا”، وهبط عن السطح، وجلسنا في مضافة مرتّبة، ولم يطل الوقت حتى فُرشت صحون الطعام، والتفت إلى صديقي وقال له :” أحمر أم أبيض”؟ فقال:” أبيض”، ولم أنس حتى الآن بعد مرور هذه السنوات طعم ذلك الشراب، فقد كان سلسا وطيّب المذاق حتى لكأنّك تتجرّع لبناً ينحدر في الحلق، وامتدّت الجلسة حتى ما بعد منتصف الليل، وحين أردنا المغادرة، قال:” انتظروا قليلا”، وغاب فترة قصيرة وقال :” تفضّلوا” وإذ به قد هيّأ عربة من تلك العربات التي كانت تستعمل للنقل في المنطقة الشرقيّة، وفرش أرضها بفراش، وحين رأى ذلك رفيقي حاول أن يقول شيئا فقال له:” ولا كلمة”، فركبْنا وأوصلَنا إلى ” البْويضة”، يُقال إنّ طعام الكريم وشرابه يصلان إلى الجسم بليونة وعذوبة ويُسْر، وفرَح،
بعد أكثر من عشرة أيام، وكان الجوّ غائماً قليلا، وفيه رطوبة، ويُنذر بهطول أمطار ينتظرها في ذلك الوقت أبناءُ “الْجَفْتَلِكْ” ليفلحوا ويزرعوا، فلم يكن في تلك الديار إلاّ زراعة القمح والشعير، وبقيّة الحبوب، ويندر أن ترى فيها عرْقا أخضر، فهي جرداء مَرْداء، أمّا اليوم فقد تحوّلت إلى بساتين خضراء، يُزرع فيها اللّوز، والكرز، والعنب، والفستق الحلبي، حتى لكأّنها لم تعرف تلك الجّرادة من قبل،
هنا لا بدّ من ذكر أنّ مَن كان يملك فدّاناً في ” الجَفْتلكْ”.. يعيش في بحبوحة، فقد كانت الأمطار تأتي باكرة، وفي فصل الشتاء تُروى الأرض، فتجود المحاصيل، وبتغيّر المُناخ، لجأ الناس إلى حفر الآبار، وإلى الزراعة الأخرى الأكثر تقدّماً، وتنوّعاً،.. بعد عشرة أيام قال لي صديقي:” كيف رأيت صديقنا في “نَوى”، قلت:” عزّْ مَن لَفيت”، قال:” هل نذهب اليوم”؟ قلت:” أخشى أن نُثقل على الرجل”، قال ضاحكا:” يا رجل هذا لايمرّ يوم عليه دون أن يكون في بيته ضيوف”، قلت :” أنت أدرى “، وكان ما جرى في المرّة السابقة، وقرب منتصف الليل، ولمّا أردنا المُغادرة، استمهلَنا صاحب البيت، فحلف عليه صديقي أنّنا لن نركب كما في المرّة السابقة، وخرجنا وقد بدأت أمطار رذاذ خفيفة، لم توحّل الطريق، وما أن قطعنا مسافة بعيدا عن ” نوى”، حتى قال لي صديقي محذّرا:” لا تبعد عني في المشي”، قلت مستفسرا:” خير”، قال:” هناك ضبع يحوم حولنا”، وليس معنا سلاح، ولا ضوء كاشف،
وانا منذ وقت باكر في الحياة ما أكاد أتبيّن طريقي ليلا، ظننتُ للوهلة الأولى أنّه يمتحنني كابن مدينة، وبدأ يقول لي:” أنظر إنّه عن يميننا، والضبع لا يجرؤ على مهاجمة اثنين فما فوق، ولم أر شيئا، بيد أنّنا حين اقتربنا من القرية ارتفع عواء الكلاب عاليا، فهي تشمّ رائحة الضبع عن بعد، فتيقّنت من وجود ضبع، ولكنّ الله سلّم…
عبد الكريم النّاعم