الزّمن 1949م ، في مدرسة الخالديّة الخاصة الابتدائيّة،
دخل معلّم مادّة العربي، بقامته المقوّسة، إثر مرض فاجأه في شبابه ، كما روى لنا، وهو يتوكّأ على عكّازه، ويضع على رأسه طربوشا أحمر، كعادة الرجال في ذلك الزمن، كتب على السبّورة عددا من الأبيات الشعريّة، وشكّلها بخط جميل، وبعد أن قرأها بدأ بشرحها، من تلك الأبيات:
عُلُوٌّ في الحياةِ وفي المَمات
لَحَقٌّ أنتَ إحدى المُعجزاتِ
كأنّ النّاس حولًك حين قاموا
وُفُودُ نَداكَ أيامَ الصِّلاتِ
كأنّك قائمٌ فيهمْ خطيباً
وكلُّهُمو قِيامٌ للصّلاةِ
مَدَدْتَ يديكَ نحْوَهُمو احْتفاءً
كَمَدّهما إليهمْ بالهِباتِ
ولولا خوف الإطالة لأوردتُ القصيدة الرائعة، وبدأ يَشرَحُ لنا جماليّة هذا النّص، الذي قيل في رجل صلَبَه الحاكم البويهي، فكتب تلك القصيدة شاعر صديق له، وبيّن لنا كيف أنّ العلوّ كان في حياته هوعلوّ همّته، وكرَمه، كما هو عال وهو مصلوب، وكيف أنّ يديه المصلوبتين تذكّران بهما وهما ممتدّتان إلى الناس يعطيهم من ماله، فما تزالان بعد صلْبه ممدودتين وكأنّه على عطاء دائم،ولفت نظرنا إلى الصّلة بين
(الصِّلات) التي هي العطاء، و( الصَّلاة) التي هي التعبّد،
كان هذا في الصفّ الرابع الابتدائي، وبعد أنْ أبحرتُ في كتب الشعر والتراث علمت أنّ شاعر هذه القصيدة هو أبو الحسن الأنباري، رثى فيها وزير أحد الحكّام البويهيّين، ( ابن مُقْلة) ، وهو غير ابن مقلة الخطّاط الشهير، صلبه الحاكم غيرة من حضوره، ومن محبّة الناس له، وبمكيدة دُبّرَتْ، وأمر أن يُصلَب، وحرّم على الشعراء رثاءه، وكان الشاعر ابن الأنباريّ خارج بغداد، وكان صديقا لابن مُقلة، فرثاه دون أن يعلم أنّه خالف قرار ذلك الجبّار الطاغية، فكان أنْ أخذه الحاكم ووضعه بين أرجل فيلة كانت عنده فهرستْه، ولم يُخْفِ هذا الجبّار فيما بعد، أنّه تمنّى لو يكون المصلوب، وقيلت فيه هذه القصيدة،
كان معلّمنا في تلك السنة المرحوم الشاعر منير الكلاليب.
الزمن 1952م، الصفّ الثاني الإعدادي، في مدرسة خالد بن الوليد، دخل المدرّس بقامته المتوسّطة، والتي تبدو أنّها مربوعة بحكم سُمنة لاتُنكَر، وبابتسامته التي لم تفارقه في أيّ درس، كتب لنا أبياتا شعريّة، من قصيدة مالك بن الرّيب وهو يرثي نفسه قبل الموت، بعد أنْ لدغته أفعى، وقد ذكر الشاعر الذين سيبكونه حال سماع خبره، وهو حال فاجع لمن يعرف، فذكَر السيف، والرمح، و«باكية تثير البواكيا» هي زوجه، وتابع فقال:
وأَدْهَمَ غِرْبيبٍ يَجُرُّ عِنانَهُ
إلى الماءِ لمْ يَتْركْ لهُ الدّهرُ ساقيا
حين وصل إلى هذه اللقطة، وكيف أنّ حصانه سيحزن عليه، وأنّ هذا الحصان يذهب وحيدا إلى الماء، يجرّ عنانه، لأنّه فقدَ فارسه، .. عند هذه الصورة، كابن ريف، عايش هذه المفردات، ويعرفها جيّدا، أحسستُ برغبة في البكاء، فتماسكتُ كيلا يسخر منّي الساخرون الجاهلون،
كان مدرسنا في ذلك الصفّ المرحوم الشاعر رضا صافي …
عبد الكريم النّاعم