في عام 1972، على الأغلب ،- التقينا، كنّا في إعداديّة واحدة نعمل، وأنت، غالبا، لا تعرف سبب ارتياحك لهذا الشخص، أو نفورك منه، وهذا الإحساس الأوّليّ، غالبا أيضا، ما كان صادقا بالنسبة لي، إلاّ ما ندر، وهذا يؤكّد صوابيّة ما ينبثق في أعماقنا، وله العديد من التأويلات، بعضه يعود إلى علم النفس، وبعضه الآخر يُحيل على فضاءات روحيّة، تكاد تكون غريبة في هذا الزمن، الذي غرق وأغرق في الماديّات،-
ارتحتُ إليه، وكان جلوسنا إلى بعض قليل، غير أنّ ما كان بيننا في الداخل كان يُنبئ عن روح ذلك الانسجام ،
كان مربوع القامة، غزير الشعر، يُطيله قليلا، إذا مشى تظنّ أنّه قد ورث مشية عسكريّة، قويّة، موزونة، هيئة جسمه توحي بالصلابة، وكان كلانا مكتفياً بذلك الأنس المُتبادل، وربّما جمعتْنا أمور أخرى، منها أنّ كلاّ منّا ظلّ محافظا على لهجة قريته التي نشأ فيها، على ما بين القريتين من بُعد في المسافة.
في العام الدراسي 1974-1975 اتّفق أن طلبْنا الإعارة للجزائر الشقيقة، بقصد تحسين العيش، وذهبتُ بمفردي، وأخذ عائلته وأولاده، ربّما ليُلزم نفسه بالبقاء زمن الإعارة المحدّد بأربع سنوات، وعدتُ أنا بعد عام دراسي واحد، وربّما كان الكسب الذي حقّقته هو تجوّلي في بلاد الجزائر، وما شاهدتْه العين، وما اختزنه القلب من ذكريات، وبقي هو في الجزائر، وبعد عودتي وردتني رسالة منه، فسررت بها، فقد أكّدت لي صدق ذلك الإحساس الجوّانيّ، وبرفقة الرسالة قصّة قصيرة، طويلة الصفحات نسبيّاً، قرأت القصّة فإذا أنا أمام مَن يعرف كيف يصوغ مشاعره، ويلتقط اللحظات، أو يبتكرها، لتشكّل مدماكا في معمارها، ولفتني أنّه، يحرّك الأحداث بحرفيّة جميلة، فأدركتُ أنّه كان مدمن مطالعات أدبيّة، ووصلتْني فيما بعد أكثر من قصّة له، وفيها من الحرارة ما يُنبئ بأنّه كان يعيش تجارب حيّة فهو يكتب عنها، ولم تخلُ من بعض الهَنات اللغويّة، فهو مدرّس علوم، لا خريج أداب،
وفجأة بدأت تصلني رسائل قاتمة، لم يذكر أسبابها، فقلقتُ عليه، وربّما كتبت له ما ظننت أنه يساعد على تجاوز ما هو فيه،
ذات يوم وصلتْني رسالة منه حارّة المشاعر، قاتمة الفضاء، وفيها يُنبئني أنّه وصل مرحلة لم يعد فيها قادرا على تقبّل ما فاجأه من مرارات الحياة، ومَن كان يحمل مثل تلك الحساسيّة يُدرك ما الذي قد يراوده من خيارات صعبة جداً، يقول في تلك الرسالة، ما معناه أنّه كان قد قرّر الانتحار، وأعدّ للأمر عدّته النفسيّة، يتابع صديقي إنّه اضطرّ للسفر إلى الجزائر العاصمة، ولمح في إحدى المكتبات مجلة ” المعرفة” السوريّة، فاشتراها، وجلس في أحد مقاهي الرصيف الكثيرة في الجزائر، وقلّب صفحاتها، فوجد لي قصيدة منشورة فيها، وما أن قرأها حتى انقلب قرار مغادرة الحياة إلى قرار بالاستمرار فيها، ومواجهتها كما هي،
هزّتني رسالته بعمق، وقدّرت أنّ شخصا مثله لا يمكن أن يفكّر بذلك القرار الرهيب إلاّ بعد أن تكون الأمور قد بلغت ذروة لا يُطاق فيها العيش، وسرّني أن تكون قصيدة منشورة، يقرأها مَن كان مثله، فيعدل عن ذلك القرار،
حين عاد من الجزائر مُنهيا سنواته، زارني وبيده هديّة لطيفة، وشرح لي ما مرّ به، ولم يكن سهلا، فهو ممّا يُزلزل،
صديقي ما ادري ما إذا كنتَ ستقرأ ما اكتبه الآن ، أقول لك أنّني وأنا ارتّب بعض أوراقي المُبعثرة، وما أكثرها، وجدتُ تلك القصص التي كتبتَها وأرسلتها لي، ولا أدري لماذا لم أتلفها كما أتلفتُ أوراقا ورسائل أخرى، وهي ما تزال في حوزتي، فهل تريدها الآن ؟…
عبد الكريم النّاعم