مَنْ منكم زار يوماً إحدى “المناطق الصناعيّة” في بلدنا لسبب أو لآخر؟ إنّها بحقّ عالَم مستقلّ بذاته، عالَم من المرايا العاكسة، يسبح في جوّ من الأسرار والغوامض، هذا العالَم الذي يمور بالحركة والنشاط والعجلة والغبار والزّيوت والشّحوم والضّجيج، لكأنّك فعلاً لا ادّعاءً تشعر وكأنّك في قلب معركةٍ حاميةِ الوطيس، ففيها أي “المنطقة الصناعية”، يرى المرء بعينيه اللائبتين مدى الجهود المُضنِية التي يبذلها الشّغيلة في محالّهم ومخازنهم ومستودعاتهم من أجل الحصول على لقمة العيش، وهناءة الحياة، وتهرِيم المال، أو سوى ذلك، الأهمّ والأكثر تطلّعاً وتفرّداً: الاستيلاء على جيوب العباد، بالكلام المَعسول، بالدّبلوماسية، بالقوّة، بالخوّة، بالسّمْسَرة، برفع قيمة الأتعاب، وأسعار قِطَع الغيار أضعافاً مُضاعَفة، وبأيّ حيلةٍ “صناعيةٍ” مُفبرَكةٍ.. وحين ترمي عينيك باتجاه الشّغيلة مرّة ومرّات، فإنك ولا شك تقع على وجوه مُتعَبَة، وأجساد مُنْهَكَة، قد أعياها الضّنى والإجهاد البادِيَين، وساعات العمل الطويلة، خاصّة منهم أهل حرفة الميكانيك لتصليح السيارات الكبيرة والشّاحنات والباصات والقلّابات، أعني بكلمة “الميكانيك”، حسب منطوقهم “الميكانيكي”، أو بلغة أخرى “المكانسيان”.. وهناك مَنْ يتعاطى مهنة الحدادة الشاقّة، لتصنيع صناديق وهياكل السيارات الشاحنة، أو القاطرة والمقطورة تمثيلاً، وهناك مهنة تَصْويج السيارات، أي تجليسها، بمعنى آخر: “إعادة أعضاء السيارة كما كانت قبل الصّدم، أو قبل الحادث المروري” إلخ، وهي مهنة تتطلّب الكثير الجمّ من الخبرة والممارسة والضّمير.. ومن ثمّ تأتي مرحلة مَعْجَنَة السيارة بالمعجون الخاص، وحفّها، وتأسيسها، وتنظيفها داخل إحدى مغاسل السيارات، كما يشير أهل الدّراية والاختصاص، استعداداً لِبَخّها ودَهْنها بالأصباغ والعيارات اللازمة داخل “الفرن الحراري”، كما يُسمّونه، هذا ما يجري للسيارة، التي تعرّضت ذات ساعة طيشٍ من السائقِ ذاته، أو منْ سائقٍ متهوّر آخر، أو من سائقٍ مخمور، أو من شخصٍ لا يملك شهادة القيادة، لواحدٍ من الحوادث المروريّة.. أمّا أولئك الذين يعملون ببيع قِطع التّبديل الجديدة أو المُستعمَلة، فَهُم يسرحون ويمرحون برسم الأسعار والتحكّم بها، وتحديد أثمان قِطع الغيار حسب أمزجتهم الخاصّة، وجشعهم اللامحدود، وأنت الزّبون المسكين، الذي لا حوْل لك ولا طوْل، تلوبُ باحثاً عن قشاطٍ للدّينامو، الذي تقطّعت أمعاؤه بفعل مرور الزّمن عليه، أو وأنت تبحث عن إحدى المرايا الجديدة، بدلاً من المرآة الجانبيّة المكسورة، التي اغتالتها يد مراهق عابث، أو رعونة سائق طائش، أو سرعة سائق ، وهو يتحدث مع محبوبته الشقراء على (الموبايل)، فلم ينتبه إلى أنّه صدم مرآة سيارة أخرى بمرآة سيارته.. أو وأنت تبحث لائباً مُتعَباً عن “الشّبك” الأمامي، و(حامل) الرّيداتير والمروحة والفانوسين اليميني واليساري، إلخ، والعرق يتصبّب من جبينك الزّاهر الأغرّ، من وجهك ورقبتك ، وأنت تتنقّل محمولاً على قدميك الصّامدتين في عزّ الحرّ والقيظ، من “الساحة التجارية”، كما يسمّونها بواحدة من المناطق “الصناعية”، وهناك مخازن ضخمة، حَوَتْ قصّات لسيارات كثيرة متنوّعة، وقصّات أخرى لأنواع من السيارات الكورية واليابانية والألمانية والصينية والإيرانية، وما شابه، حتى إذا وجدتَ القطعة التي تبحث عنها، وأنت بِمَسِيسِ الحاجة إليها، لأنّ سيارتك المتوقّفة تنتظر بفارغ الصبر خروجها من المنطقة الصناعية بأسرع ما يمكن، فقد أعياها المرض والملل والغبار الخانق وأشعة الشمس اللاهبة، وسكوت المحرّك عن الدّوران لشهر أو أكثر، فهي تتغيّا العودة إلى السّير والانطلاق كباقي السيارات المُعَافاة من سيارات خَلْقِ الله، وقد تعبت بالفعل من الوقوف المُضني، ومن جبل الصبر، ومن هاتيك الرّوائح المُقزّزة، ومَشاهد الفوضى المُترَاكِمَة، ومناظر الطرقات الخَرِبة غير المُسَفْلَتة، ومن رؤية أكوام القمامة هنا وهناك وهنالك، ومن عبور الشّحاذين من الجنسين…
قارئي العزيز، ما ورد بهذا “المقال الصناعي” مجرّد انطباعات مُجتزَأة، حول واحدة من مناطقنا الصناعية المنتشرة على تراب الوطن، أردت بهذا إعطاء صورة بانوراميّة، للذي يجهل هذا العالَم الرّحِيب، بِما لَهُ، وما عليه!!
* وجيه حسن