عام 1951 بدأتْ تتشكّل ملامح تكوين ” حيّ النّزهة” في حمص، فهنا نشأت دار، وهناك عدّة دور، مُتباعدة، فوق أرض زراعيّة، كانت بريّة تُزرع حولها القمح والشعير، وكانت مدرسة ” المتنبّي الريفيّة” الواقعة إلى الشمال من تلك البيوت،.. كانت خارج حدود المدينة، حيث تقع الآن ثانويّة ” الفارابي”، وكان مَن يُهدَّد من المعلّمين، لسبب من الأسباب،.. يهدّد بالنقل إلى هذه المدرسة، حتى لكأنّها منفى، وكان نشاط الأحزاب السياسيّة يحتلّ مكانه وربّما وجد البعض في هذه الأحياء التي تتكوّن، فسحة لنشاطاته، وكنت في ذلك السنّ قد انتميت لحزب ” البعث”.
ذات مساء جاء رجل نسيت مَن هو، ورجاني أن أحضر جلسة في باحة بيته يتحدّث فيها أحد السوريين القوميّين، وكان على مَن ينتمي إلى أيّة حركة سياسيّة أن يكون على اطّلاع أوّليّ بمبادئ الأحزاب الماثلة على الساحة، إذ قلّما تخلو جلسة من الجلسات من الكلام عن مبادئ تلك الأحزاب ، أو النقاش حولها.
جلس الرجل بقيافة مَن يلبس طقماً وربطة عنق، ونحن، عداه، ثيابنا ممّا يَستر، وبدأ الكلام، وتفنيد أقوال أخصام فكرة السوريين القوميين، وبعد الانتهاء فُتح الباب للنقاش، فقلت له متهيِّبا بعض الشيء، قلت ما معناه:” أنتم تقولون أنّ أرض الحجاز وشبه الجزيرة العربيّة ليست من سورية في شيء، وترون أنّ بيننا وبينها حاجزا طبيعيّا هو الصحراء، المانعة لدورة الحياة، بينما نجد أنّ العديد من بدو هذه البلاد، يذهبون إليها فلا يصطدمون بذلك الحاجز، هذه واحدة، أمّا الثانية أنتم لا تعتبرون اللغة من مكوِّنات الأمة، وأنا سأفترض أنك كنتَ تسير في شوارع باريس، وسمعتَ مَن يتكلّم العربيّة باللهجة المصريّة، فماذا سيكون شعورك النفسي”؟، وظننتُ أني قد أحرجْتُه بذلك، فقال لي بكل برود لا يخلو من تشنّج خفيّ، قال:” للأسف الجواب ليس كما تتوقّع”، فأُصبتُ بدهشة، هل يُعقَل؟!!
سردتُ الحادثة لأصل إلى سؤال آخر متعلّق بتلك المرحلة، هل هي كما يصوّرها البعض أنّها كانت فترة ذهبيّة للديموقراطيّة ؟!!
لقد كانت مليئة بالصدامات، بين الأحزاب، السوريون القوميّون أعدى أعدائهم الشيوعيّون، الأخوان المسلمون عُرفوا ب” البلطجة” منذ ذلك الوقت، فكم من مرّة أغاروا على بعض المحلات فحطّموا واجهاتها، وما في داخلها لأنّها تبيع مشروبات روحيّة، وهم إجمالا يعتمدون على الترهيب، وعلى إخافة الآخرين .
المرّة الوحيدة التي تجمّعت فيها أحزاب وقوى وتشكيلات تقدميّة كانت عام 1956 في انتخابات للبرلمان، حين رُشّح في حمص طيّب الذّكر أحمد الحاج يونس، لمواجهة مَن يُمثّل السلطة الرسميّة، واليمين الديني، وقد تمكّنت هذه القوى من إنجاح أحمد الحاج يونس.
في هذه العجالة لابدّ من ذكر أنّ جميع الأحزاب التي ذكرتُها كان لها حضورها القويّ في مدينة حمص، مدينة وريفاً، وذلك المدّ كانت له نتائج يعرفها من عاصرها، وليس هذا مجال ذكرها،
هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ الحزب السوري القومي قد ألغي وجوده رسميّا، وجرت ملاحقة عناصره ، بعد اغتيال العقيد الركن عدنان المالكي، وقد حُمِّل هذا الحزب جرم تلك الفعلة، وثمّة مّن يقول أنّ اغتياله كان بأمر من أحد قادة الحزب، لا من قيادته، وقد ظلّ ممنوعاً في سورية حتى ما قبل نهاية التسعينات من القرن الماضي، بزمن لست أذكر تاريخه، فعادوا إلى الساحة كفصيل وطني في مواجهة التكفيريّين الاخوانيّين، وكانت لهم مواقف ناصعة في لبنان قبل ذلك فيما يتعلّق بالتنسيق مع المقاومة فيها…
عبد الكريم النّاعم