اسمَنُوا كالدّيوك المَعْلوفَة..

هذا القول الوارد في عنوان “التحيّة” – من باب أمانة الكَلِم، وعافية السّرد – ليس من بنات أفكاري، وليس من آباء إبداعاتي، إذا كان ما أكتبه وأحبّره يدخل في هذا السّياق، أو يقاربه.. يقول الأديب الروسي الكبير “أنطون بافلوفيتش تشيخوف”، مخاطباً أولئك المتورّمين المنفوخين كبالونٍ مملوءٍ بالهواء، الذين يتعالَون على الناس بعامّة، ويشمخرّون بخياشيمهم وآنافهم على فئات الفقراء المُستضعَفِين بخاصّة، حدّ الاستعلاء والخُيَلاء، وهم “المنفوخون” في حقيقتهم والجوهر أضعفُ من جناح ذبابة، وأدنى مستوى من شفرة حلاقة مرميّة أرضاً، وأقلّ قيمة ووزناً من خَشَاش الأرض، أو سَقَط المتاع..

تعالوا لنقرأ معاً وسويّةً ما قاله الكاتب العبقري “تشيخوف” في هذا السّياق: (اسمَنُوا أيّها المُتعالُون كالدّيوك المَعْلُوفَة، لكنْ إيّاكم إيّاكم والسّخرية والاستهزاء بكرامات الناس وكينوناتهم؛ وإذا لم يكن في مقدوركم، أو في وسعكم أنْ تحترموها، وأنْ تقدّروا إنسانيّتها التي جُبِلَت عليها ابتداءً، فاعفُوها على الأقلّ من دائرة اهتمامكم، يا لهذه النّفوس التّعِسَة الخَرِبَة..)، إلى هنا ينتهي الاقتباس!!

ألا ترى قارئي العزيز/ قارئتي العزيزة، أنّ كلام الكاتب الكبير “تشيخوف” – الذي ينساب ناعماً سلِسَاً غزيراً، كما يسيل الماء من ميزاب – يصيب عين الحقيقة وكَبِدَها، ويهزّ شجرة الوجدان هزّاً لا هوادة معه، إنْ بقي بعضٌ منه؟

هنا القول بكلّ صدق وصراحة متناهيتين: ألا ترون أيها القرّاء، أنّ الدّيك المعلوف، الذي يخنقه الدّهن، ويعضّ على نَفَسِه عَضّاً، ويلوي عنقه لَيّاً، هو قريب جدّاً من زمرة التّعَساء المُفلِسِين؟ الذين لا يقدّرون كرامة الناس في الحياة، ولا يحترمون وجودهم الآدميّ، بل ينظرون إليهم من الباب العالي، أو من البرج العاجِي، كما يُقال، فكيف يستقيم هذا الفعل السّلبي المُدان، مع إنسانيّة الإنسان، ومع الحكمة من وجوده تحت قبّة السماء، وفوق بساط الأرض المترامية، علماً أنّ البشر هم جميعاً أبناء تسعة الأشهر، إلّا ما ندر؟!

ويقول الكاتب النّاقد “تشيخوف”: (إنّ العظماء هم أبسط سلوكاً، وأكثر فهماً، وأعذب شعوراً، وأقرب بأرواحهم إلينا من كلّ هؤلاء المُتعالِين المَعلوفِين، الذين نعيش بينهم، ويعيشون بيننا، في هذا المجتمع أو في سواه)..

لقد كان هذا الكاتب العبقريّ جميلاً في أقواله وبساطته وصراحته وجرأته، فقد أحبّ في حياته كلّ ما هو بسيط، حقيقي، صادق، جريء.. وحين سأله أحد النقاد الرّوس: – مَنِ الأقوى في نظرك من جنس البشر؟

 أجاب بأريحيّة:

– ( الذين يتغذّون أفضل، ومَنْ هُمْ أكثرُ ثقافة ووعياً وقراءةً)..

ويقول “تشيخوف”: (الآن أوانُ بذر “الجودار”، أي القمح، فكيف تبذره أيّها الإنسان المَعلوف المُفلِس المُتعالِي، وليس في جعبتك بذور)؟!

ومن الجدير ذكره في هذا الصّدد، أنّ الإنسان، مطلق إنسان، إذا جعل نفسه قنطرة، أو قشرة موز، أو أرضاً واطئة، فعليه أنْ يتحمّل دَوْس الأقدام، أو عبور الأظلاف..

ثمّ ألم يقل شاعر عربيّ يوماً، مبيّناً قيمة التّواضع في الحياة:

(مَلأى السَّنابِلِ تَنْحنِي بِتَواضُعٍ  والشّامِخاتُ رُؤُوسُهنُّ شَوامِخُ)؟!

ويقول الأديب “تشيخوف”: (إذا كنتَ خيّاطاً قديراً جديراً بالاحترام، فَخيِّط بعد أخْذ المقاس على طول الزّبون، من دون زيادة أو نقصان.. اقفز من أعلى البُرْج، شرط أنْ تدخل بقدميك في الحذاء مباشرة.. أرأيت)؟

هؤلاء الفَسَدة المُتعالُون، الذين يسمنُون كالدّيوك المَعلُوَفة، هُم في حقيقة الأمر عالة على أيّ مجتمع، وهُم كَلٌّ عليه، لأنهم في حقيقتهم وجِبلّتهم لا يحبّون سوى تهريم المال، والاستيلاء على نقود العباد بأيّة وسيلة، وأيّ سبيل، بالحرام، بالسّطو، بالغشّ، بالحِيلة، بالسّمسرة، بالابتزاز، بالباطل، إلخ، كلّ هذا وسواه لا يدخل ضمن تفكيرهم أو بؤرة ضمائرهم في شيء، فهذه الضمائر الفاسِدة موضوعة منذ زمن بعيد في ثلاجة البيت، أو في سقيفة المخزن، لأنّ آلام الناس الغَلابة، لا تحرّك شيئاً في نفوسهم أو قلوبهم أو أرواحهم الخشبيّة، ألبتّة..

ويقول الأديب القدير “تشيخوف”: (آنَ لنا أنْ ننتبه جيّداً إلى أولئك الذين لا يريدون أنْ يمتثلوا للقوانين، والذين يضربون بها عرض الحيطان ضرباً من باب التّعالي)..

ختاماً يقول شاعر عربيّ:

“وَمَنْ كانَ ذا خُلُقٍ فاضِلٍ   فَيُحْمَد في النّاس حَمْداً كثيراً”

“وَمَنْ كانَ ذا خُلُقٍ سيِّىءٍ   فَيُهْجَر حتَّى يموت حَقِيراً”…

  وجيه حسن 

  

المزيد...
آخر الأخبار