أعتقد أن شعوب الحضارات القديمة كانت على مستوى راق من التفكير وتمتعت بفلسفة إنسانية سامية عندما آمنت أن الحزن مقيم دائم في حياة الإنسان ، وأن الألم ملازم له أما الفرح فيصنعه الإنسان ويقيم له الطقوس الخاصة لتلوين الحياة البشرية بألوان الفرح ، ألوان قوس قزح التي استلهمها من الطبيعة .
وهذا مايفسر لنا الاحتفالات الكثيرة التي كانت تفرش ساحاتها بالورود وتتشابك فيها الايدي بالحب والفرح والسلام.
ولنا في حكاية – ديمتر – ربة القمح خير مثال على الحزن المقيم والفرح المصنع فقد اختطفت ابنة – ديمتر – ولبست أمها ثياب الحداد السوداء فيبس الزرع وجف الضرع ووقعت المجاعة وحلت سنوات عجاف ، ولكن المربية – باوبو – لم تترك وسيلة لإعادة الفرح لديمتر إلا واتخذتها ، غنت لها ، رقصت ، مثلت وشخصت ، ووصلت إلى التهريج حتى تعيد البسمة إلى شفتي – ديمتر – وعندما عادت البسمة عاد الزرع إلى نضارته وامتلأت السنابل بحبات القمح .
وكان كل شعب ينتج احتفالاته وأعراسه ليصنع الفرح ، وفي بلادنا التي تمتد حضارتها إلى عشرة آلاف عام كانت الاحتفالات تغطي معظم أيام السنة فمن احتفالات الحصاد، إلى احتفالات الكروم ، إلى احتفالات الربيع ، وكلنا يتذكر أن بعض هذه الاحتفالات امتدت إلى عصرنا كاحتفال خميس النبات الذي كانت تغنى فيه أغنيات خاصة تعبر عن الفرح بقدوم الربيع وماهي إلا امتداد لأغنيات كانت تغنى لدموزي وتموز في بلاد الرافدين – العراق – وتغنى لأدونيس في بلاد الشام .
كمانجد الاغنيات والهناهين التي ترددها الصبايا في أعراسنا امتداداً لتلك الأغنيات التي كانت تغنى – لعشتار – ربة الجمال ، فكل عروس هي عشتار في مرآة نفسها ومرايا الآخرين.
و كلما سمعت الزغاريد والأناشيد في عرس شهيد تذكرت ماكان يردده أجدادنا في هذه الأرض العريقة في استشهاد –بعل – إله الخصب الذي قتله الإله –موت – وعندما أسمع شقيقة الشهيد تحول حزنها بفقد شقيقها فرحاً باستشهاده أتذكر – بعليت – شقيقة بعل التي بكت وغنت فرحاً لفقد شقيقها الذي عاد مركبته الغيمة والرعد صوته والبرق لمعان سيفه والمطر عطاؤه .
وأبناء وطني سورية الذين تحملوا من طعنات الآخرين ما لايحتمل ونزفت جراحهم كما لم تنزف جراح من قبل قادرون على جعل الجراح أفراحاً والمآسي أعراساً لأن أفراح النصر لاتساويها أفراح وأعراس كبريائهم ومقاومتهم تطأطىء دونها أعراس الدنيا كلها .
وإذا كان الرومانسيون قد وصفوا الألم بالعبقري لأنه منبع الإبداع فإن آلام السوريين أكثر من عبقرية ولذلك سيكون فرحهم بالنصر إبداعاً مابعده إبداع .
غسان لافي طعمة