في مفتتح “التحيّة”، يقول أحد شعراء العربيّة مُحذّراً:
هِيَ الدّنيا تقولُ بِمِلْء فِيْها: حَذارِ حَذارِ مِنْ بَطْشِي وفَتْكِي..
(فِيْها): أي “فَمِها”!
هي ذي حالة الدّنيا إذاً، هذا طبعُها، هذا ديدنُها، وهذه سياستها الرّعناء مع بني آدم وبنات حوّاء، فهل نتّعظ، هل نعتبر ؟ وهل نكون عقلاء أسْوياء، فنصحّح خطواتنا وسلوكاتنا كلّما أخذنا عجاجُ الهوى النفسي إلى سُبل الاعوجاج، ومسارب الضّياع، خوفاً وحذراً من أن تزلّ بنا القدم، فتوصلنا إلى المهاوِي المؤلمة، أو السّقطات المُخزية؟ يقول أحدهم: “ما أكثرَ العِبَر وأقلَّ الاعتبار”، حقّاً ما أروع المرء الذي يؤمن بمثل هذا القول الحكيم، ليُجنّب نفسه الأمّارةَ الوقوعَ في التّهلكة والسّوء قبل مجيء المصير المحتوم، واليوم الموعود، وهو أقربُ من السّواد إلى البياض كما يُقال، وحينها لا ينفع لوم ولا ندم ولا تقريع، إلّا مَنْ أتَى اللهَ بقلبٍ سليم!
الذي دعا القلم ليُحبّر هذه الكلمات الدّخانيّة، المُتّشحة حروفها بلون العزاء، ومرارة القهوة، التي تُقدّم للأضياف في هكذا مناسبات مُرّة، هو ما رأيناه من أفعالِ منجلِ الموت، وهو يحصد بكلِّ تؤدة، وبرودة أعصاب أرواحَ كثرةٍ من كتّاب وأدباء وفنّاني ومفكّري وأناسِيّي وشخصيّات هذه المُحافَظة الولّادة، فقد فُجِعنا جميعاً، في غضون الأشهر الأخيرة للعام الحالي برحيل كوكبة غالية على القلوب من هؤلاء الكبار، الذين غيّبتهم، على حين غرّة، أظفار الموت الحادّة، ومخالبه المسنونة، مُخلّفة في نفوس الأهلين أوّلاً وفي قلوبهم آلاماً مُمِضّة، وجراحاً رَاعِفَة على رحيلهم والغياب، من الصّعوبة اندمالُها اليوم أو غداً أو بعد غد.. نعم كنتَ قاسياً وجبّاراً يا العام 2020، لم ترحم عدداً من أدباء وكتّاب ومفكّري وفنّاني مدينة ابن الوليد، (حمص العَدِيّة)، فقد نقلتهم في لحظاتٍ سريعاتٍ من عالم الضياء والشّمس، إلى عالم القبر والإعتام، بعدما أهالَ الأهلون والأحبّة والأصدقاء والزّملاء والأقرباء المحزونون المُتأسُّون الترابَ على الأجساد الطاهرة، وعادوا إلى منازلهم بسرعة البرق، ليضمّوا أطفالهم وفلذات الأكباد الأحياء إلى صدورهم وقلوبهم، خوفاً عليهم من الرّحيل والغياب.. أمّا أنتَ أيّها الموت الزّؤام، فقد جلست وحدَك، تتلذّذ برحيلهم المُتأسِّي إلى عالم السّكينة والحساب..
بالفعل كنتَ قاسياً، ذا وجهٍ متصخّر يا العام 2020، وأنت تُغيّب عن أعيننا وأسماعنا وقلوبنا وجلساتنا وندواتنا أحبّة وأصدقاء وأساتذة كباراً، كان لهم حضورهم الأبهى، ومكانهم الأسمى بيننا، فقد كانوا حقّاً لا ادّعاءً ملءَ العين والقلب والسّمع في الأمسيات والأصبوحات واللقاءات والمنتديات والمعارض والمسارح والصالات والاجتماعات والاستراحات، وكانت لهم في الوقت عينه بصماتُهم في عقول الآخرين ونفوسهم، من كبار وصغار ومن الجنسين، بل كان لهم تأثيرهم الفاعل في العقول والنّفوس، فكيف لا نذرف إذاً دمعات الوفاء والتقدير والاشتياق على رحيل هؤلاء وأمثالهم، وعلى انسحابهم من مسرح الحياة انسحاباً نهائياً، بعدما خلّفوا للأجيال الصّاعدة إرْثاً من سلوكاتهم وأخلاقهم وكتبهم ولوحاتهم وكلماتهم ومواقفهم وابتساماتهم ومعزوفاتهم الموسيقيّة، التي حفرت في العقول والقلوب ما شاء لها التأثير والحفر!
ومنذ أيامٍ حالكاتٍ معدودات، غيّب الموت بأظفاره المَسْنُونة الحادّة واحداً من رجالات سورية الكبار العظماء، هو الفقيد الرّاحل المعلّم “وليد المعلّم”، وزير الخارجية، نائب رئيس مجلس الوزراء، رجل الدبلوماسية السورية الأوّل بدرجة “شرف”، فقد كان شوكة واخزة في حلوق أعداء بلده، وعقبة كَأْدَاء في طريق تنفيذ أجنداتهم الأفعوانيّة المُتَثَعْلبَة، وكان الرّجل المعلّم “المعلّم” بكلماته الناريّة في وجوه خصوم بلده والأعداء، لا يخشى في الله لومة لائم، وقد شهد له القاصي والدّاني، بأنه كان إنساناً وطنيّاً بامتياز، أحبّ وطنه وشعبه حبّاً جمّاً، ودافع عن قضية وطنه العادلة في المحافل الدولية كأروعِ ما يكون الدّفاع المُستمِيت، لم يضعف يوماً، لم تهن عزيمته، لم يستسلم لكلّ التّهديدات والإغراءات والأعطيات والجوائز والحوافز التي لوّحوا له بها، لأنّ سورية الوطن كانت بالنسبة إلى شغاف عقله، وبؤبؤي قلبه، وضميره الحيّ هي الأم الحانِية، وهي الهدف والغاية، وهي البوصلة التي لا يحيد في الدّفاع عنها قيْد شَعْرَة، مهما كانت ظروف السياسة، و”أحوال الطقس”..
ختاماً يقول شاعر:
“إنّ الثّناءَ ليُحْيِي ذِكْرَ صاحِبِهِ كالغَيثِ يُحْيِي نَدَاهُ السَّهْلَ والجَبَلا”
“لا تُزْهدِ الدَّهْرَ في عُرْفٍ بدأتَ بهِ كُلُّ امرِىءٍ سوفَ يُجزَى بالّذي فَعَلَا”..
(العُرْف): أي “المعروف”..
* وجيه حسن..