من أسماء الفنّانين الذين عرفتْهم حمص على مدى أكثر من ستّين عاماً، فيما أخمّن، فهد الجنّيّات أبو سعيد، وقد اشتُهر بالعزف على آلة الكمان، ولعلّ اللاّفت في ذلك أنّه كان يعمل بستانيّاً، وكان من المألوف أن نرى بعض العازفين في ذلك الزمن أصحاب مصالح، أو باعة، أو حرفيّون، فلم تكن ثمّة دراسات أكاديميّة للموسيقا، لأنّ هذا جاء فيما بعد، وكان محصوراً في دمشق وحلب، أمّا في حمص فمعظم العازفين الذين تميّزوا كانوا يتعلّمون من بعضهم بعضاً، ولعب في هذا المجال نادي دوحة الميماس دوراً مميَّزا بالنسبة للبعض، كما لعبت دورها نواد أخرى.
كان أبو سعيد الجنيّات من البارعين في العزف على آلة الكمان، وعند هذه النقطة لابدّ من الإشارة إلى الموهبة، فقد تجد عازفيْن على آلة واحدة، ولكنْ حين يعزفون ارتجالاً فإنّ واحداً منهم يتميّز على الآخر برهافة عزفه، وبقدرته على التأثير أكثر من صاحبه، على الرغم من أنّهما قد يقسّمان من مقام واحد، فهذا أكثر حنانا، وأرهف شفافيّة، وأقدر على تحريك المشاعر، والسرّ لا يكمن في الدراسة أو في العلم، بل في “الموهبة”، والموهبة أمر عصيّ على التعريف، فأحد النقّاد ” كاجان”، يقول ما معناه “يبدو من أجل ان تكون شاعراً يجب أن تُولَد شاعراً”.
اللاّفت أنّ فهد الجنيات كان لا يعرف القراءة والكتابة، وكان يعتمد على ذاكرته في حفظ الألحان، والأدوار، والطقاطيق، والسماعيات، وبحسب ما رواه لي، وكان يعمل ذات سنة على مسارح بيروت، وصادف أن زارها الموسيقار الشهير محمد عبد الوهاب، وقد دُعي الجنيّات إلى إحدى السهرات، وكان نجمها عبد الوهاب ذاته، وقد أُعجب بعزفه، وبحساسية أنامله، وحين علم أنّه أمّي ازداد عجبه، وكان إذا أراد أن يسال عنه يقول:” فين الرّاجل الطابعة”
من مضحكات ما رواه، أنّه اضطرّ للسفر إلى دمشق لأمر ضروريّ، وبينما كان متّجهاً باتجاه سوق الحميديّة صادفه مطرب كان يسمّي نفسه كريم العراقي، وأنا شهدتُ هذا المطرب على أحد مسارح دور السينما بحمص، وهو يعرف الجنّيات جيدا، فقد عزف مع فرقته أكثر من مرّة، وحين رآه يلفّ على رأسه ( سُلكاً) منقَّطا بالأسود، وينتعل حذاء ذا ساق طويل من الكاوتشوك، وشروال عامل بستنة كاد أن يشكّ فيه، فاقترب منه بحذر، وقال له:” ألستَ أبو سعيد”، فحبكتْ مع أبو سعيد وقال له بطريقة مريبة:” إي.. انا هو، واليوم أفرجوا عني من مستشفى المجانين”، فاضطرب العراقي وخاف، وكاد يُغادر مذعورا، فقهقه أبو سعيد واستوقفه، وأعاد الترحيب به من جديد،
ذات سهرة في بيت صديق لي صار في ديار الحقّ، التقى أبو سعيد الجنيّات، وعازف الكمان عبد المعين مرزوق، فأمسك أبو سعيد بالعود، ورافقه مرزوق على آلة الكمان، وكانت سهرة امتدت حتى الفجر، وكان المطرب فيها أبو سعيد، وما يزال التسجيل بحوزتي على شريط كاسيت،
كان صوته رفيعاً بعض الشيء، لا يخلو من أنوثة، وهذا في عرف البعض ممّا تُمدَح به أصوات الرجال، ويمتلك جواباً واضحاً، وقراراً واضحا، ويغنّي بحساسية عالية، فغنى الموال السبعاوي، والقصيدة، والطقاطيق، وما أدري كيف هبطت على الجميع حالة من الصفو، والتجاوب، والسماع الرزين، وكان يكتفي بالعزف على الكمان،
واجه صعوبات ماديّة في حياته، وهو الذي يعرفه محبّو الطرب من جميع الطبقات في حمص، وضايقته حاجيات الحياة، فتوسّط له المرحوم مروان السباعي، وكان كاتب رواية، .. توسّط له فعُيِّن جنائنيّاً في إحدى الحدائق الموجودة في وسط المدينة، وهي حدائق تابعة لبلديّة حمص، فاستقرّ حاله بعض الشيء،
ما أدري لماذا أشعر بضرورة أن تلتفت جهة ما، لتوثيق ما بقي ممّا سُجّل في تلك الأزمنة، أقول ذلك وانا لا أمل لي في تحقيقه، بل هي مجرّد رغبة مشروعة، أتمنّى لو تجد من يتبنّاها، ويكون قادراً على تنفيذها، لأنّ ثمّة أزمنة أخرى نعيشها تبدو مقطوعة عمّا سبقها، وفي ذلك ما فيه من الغُبن …
عبد الكريم النّاعم