للياسمين الدمشقيّ لغةٌ لا يفهمها إلا من تنفّس هواء دمشق ، ومشى على ترابها ، وشرب من مائها، وتمتّع برؤية نصوع وريقات أزهار الياسمين البيضاء النقية كنقاء قلوب محبّي دمشق وأهلها البسطاء الغيورين عليها والمحافظين على رتابة الحياة الشاميّة المتحضّرة والأصيلة والعريقة بعراقة تاريخها وإرثها الكبير…
في زيارتي الخاطفة لدمشق منذ عدّة أيّام سنحت لي فرصة معانقة شجيرات الياسمين بعد غيابٍ دام سنين عديدة والعودة لشوارع الشام الأصيلة ، ومع تناثر ورود الياسمين في دربي وعلى جوانب الشارع الذي أسير فيه بدأت استرجع ذكرياتٍ عديدةً امتزج عطرها مع شذا الياسمين ، عشتها منذ عشرات السنين وعشت تفاصيلها في لحظاتٍ من الزمن ، ومرّ شريط الذّكريات مستعرضاً أحداث كثيرة بسرعةٍ كبيرة ملتصقة بالمكان الذي أسير فيه والهواء الذي أتنفّسه وكأنّ التّاريخ يعيد نفسه ولكن بحلّةٍ جديدةٍ…
وتبدأ الذاكرة بالانتعاش في حضرة ألق وبهاء دمشق وجلالة ومكانة هذه المدينة العجيبة ، ومع كلّ وريقة ياسمينة تستذكر أشياء عظيمة من تاريخ دمشق ، وما عرفته خلال حياتك عنها ، وتتعجّب في برهةٍ من الوقت بغزارة هذا الإرث الكبير و الغنى الوفير في روعة دمشق ومكانتها وتفردها بصفاتٍ وأحداث لا نظير لها في تاريخ البشريّة وتقرأ مجداً لا يضاهيه مجد …
“وعزّ الشّرق أولّه دمشق “…مقولةٌ فيها كل الصّدق وكل الحقيقة …ويعرفها من عاش في ربوع دمشق وجال في المدن المجاورة لدمشق في أنحاء الشّرق ، ويعرف أنها درّة مشعّة في هذه البقعة من العالم ليست كغيرها من الدرر ، وفيها من السحر الذي يسرق الحب من مهجة القلب ومن أعماق الأنفاس ، وتتفاعل الجوارح كلّها مع هذا السّحر حتى النشّوة وتفيض النّفس حبّاً وعزّة و فخاراً…
ويعرف من حطّت رحاله في بلدان بعيدة أنّ هذا العزّ الّذي تتميّز به دمشق الفيحاء لا يضاهيه عزّ في أيّة حاضرةٍ على الأرض في شرقها وغربها وشمالها وجنوبها ، ويعرف من قرأ التاريخ أنّه حتّى “عمود النور” من السّماء متّصل بدمشق على الأرض ، وهذا البعد لا تعرفه عن أيّة مدينةٍ في العالم…
ومن قرأ التاريخ أيضاً يعرف “الشارع المستقيم” وأن درب إشعاعٍ حضاريّ انطلق من دمشق إلى العالم ونثر الحب والتسامح في كل أنحاء المعمورة ، وما يزال ينبض بالحياة والعلم والمعرفة حتى الآن ومنذ آلاف السنين لم تنطفئ هذه الجذوة المتّقدة بنورٍ سرمدّي لا نهاية له احتار العالم بسرّها المكنون…
ومن المدهش أن دمشق العريقة “أقدم عاصمةٍ مأهولةٍ في التاريخ” استوعبت مظاهر الحضارة الحديثة والتسارع الهائل في التّطورات المدنيّة المعاصرة ، وهي تحافظ على أسواقها التقليديّة وبنيتها المعماريّة القديمة دون تعديل ربما منذ مئات السنين ، ويحافظ أبناؤها على صفاتهم الإنسانيّة النبيلة وإرثهم العريق الذي تغنّى به الأجداد عبر تاريخها الطويل ، وتعرف ذلك بالتعاملات اليوميّة والسلوكيّات الحياتيّة التي يورّثها الآباء للأبناء بشكلٍ مستمرّ و دون انقطاع حتى تشعر كأنّك تعيش حقب التاريخ كلّها في حقبة واحدة …
لم أصدّق أنّ هذا التّاريخ المغرق في القدم لمدينة دمشق سوف يلقي ومضاتٍ متلاحقة وسريعة خلال المسافة القصيرة التي قطعتها في دروب دمشق ، ولم أتخيّل أنّ ياسمين دمشق المتناثر في هذه الدروب سوف يبوح لي بكلّ هذه الأسرار عن محبوبته الأزليّة دمشق ، والتي تحتضن بكل حبّ ياسمينها الذي يفوح عطره في هوائها ، وينهل من معينها العذب ، ويحتفظ بتأريخها الطّويل المليء بالذكريات …
دام عزّك يا دمشق ، ودامت أزهار الياسمين الجميلة تتفتّح في رياضك النّضرة ، ودام الحبّ لثراك الطاهر وسمائك الزرقاء و مائك العذب ، وعمّرك بالأمان و الخير والسلام يا “مرآة الروح”…
منذر سعده